الاقتصاد الحر ورأسمالية الدولة... هل من تَعارُض؟!
يتزايد الحديث، في لجة بعثرة الأولويات الوطنية بعد انهيار السلطة الساقطة، عن الاقتصاد الحر والمفتوح وكأنه عنوان مستجد سيُخرج الزير من البير!
مع الأخذ بعين الاعتبار أن عنوان الاقتصاد الحر والمفتوح كان العنوان الأبرز اقتصادياً ومعيشياً لكل الموبقات التي دفع السوريون ضريبتها خلال العقود الماضية، نهباً واستغلالاً وفساداً واستبداداً، على أيدي السلطة الساقطة وسياسات حكوماتها المتعاقبة الاقتصادية التي أجرمت بحق السوريين، بما في ذلك سياسات الخصخصة المباشرة وغير المباشرة التي نفذتها هذه السلطة، والتي يتم الترويج لها وتبنيها مجدداً من قبل حكومة تصريف الأعمال الحالية، تجاوزاً لصلاحياتها ودورها ومهامها المفترضة!
فالخصخصة التي يتم الترويج لها في هذه اللجة، هي استمرار للنهج والسياسات نفسها للسلطة الساقطة، وتعني باختصار تحويل ملكية وإدارة الأصول والخدمات من القطاع العام (ملكيات الدولة التي هي ملك لكل الشعب السوري) إلى القطاع الخاص، تحت عناوين تحرير الاقتصاد والسوق المفتوح وتحسين كفاءة استخدام الموارد وتعزيز الابتكار وزيادة الإنتاجية، وغيرها من العناوين الكثيرة الأخرى، التي سبق أن استهلكتها السلطة الساقطة، والتي أدت وتؤدي إلى المزيد من تخفيض سيطرة الدولة على الكثير من القطاعات وصولاً إلى إنهائها، بما في ذلك بعض القطاعات الحيوية والسيادية.
وللتوضيح تجدر الإشارة إلى أن السلطة الساقطة كانت تتبع نموذجاً مشوهاً لرأسمالية الدولة مع نموذج أكثر تشوهاً وتوحشاً في سياساتها الاقتصادية الليبرالية.
فالاقتصاد الحر الذي تبنته السلطة الساقطة شوه حرية السوق بآليته المفترضة والقائمة على العرض والطلب، وجيرتها لمصلحة القلة من كبار الناهبين والمستغلين المتحكمين بالسوق، مع تحييد الدولة عن مهامها وواجباتها على المستوى الاقتصادي الاجتماعي، وصولاً إلى التفاوت الكبير في توزيع الثروة الذي أدى إلى ترك الغالبية المفقرة دون أية حماية اقتصادية واجتماعية.
على الطرف المقابل فإن النموذج المشوه لرأسمالية الدولة المتبع من قبل السلطة الساقطة وحكوماتها المتعاقبة كان قد ساهم في تراجع الاقتصاد وانخفاض معدلات النمو والتنمية، وزاد من التأثيرات السلبية للرأسمالية المطلقة والمنفلتة لليبرالية المشوهة والمتوحشة التي تسيدت المشهد الاقتصادي، وصولاً إلى التضحية ببعض ملكيات الدولة (ملكيات السوريين)، وبسيادة الدولة الاقتصادية، وبالمصالح الوطنية بنهاية المطاف.
مع الأخذ بعين الاعتبار أنه لا يوجد تعارض بين رأسمالية الدولة والاقتصاد الحر كما يحاول البعض تسويقه لتكريس سياسات النهب والاستغلال والخصخصة ومساعي تأبيدها مجدداً، بل ربما يكون الحل الأمثل في المرحلة الانعطافية الراهنة وطنياً هي تلك الوصفة من التوازن المطلوب بينهما بما يضمن قوة الاقتصاد والمصلحة الوطنية.
فقوة الدولة الاقتصادية تكمن في قدرتها على تحقيق التوازن بين السيطرة التامة على مواردها وقطاعاتها الاستراتيجية على المستوى الوطني، التي لا يجب التخلي عنها بحال من الأحوال، بالتوازي مع الحرية الاقتصادية غير المنفلتة، مع عدم التفريط بالدور التدخلي للدولة عند الضرورة، وبما يعيد الاعتبار للدور الهام لرأسمالية الدولة بعد تطهيرها من التشوهات التي فُرضت عليها، وبما يفسح المجال للجمع بين مزايا السوق الحر المدار للمصلحة الوطنية ودور الدولة في حماية القطاعات الحيوية والسيادية، وبما يعزز قوة الاقتصاد الوطني واستقلاله وسيادته.
وهناك الكثير من التجارب الناجحة دولياً على مستوى التوازن المطلوب بين رأسمالية الدولة وأملاكها وسيادتها الاقتصادية (وخاصة على بعض القطاعات الحيوية والهامة وطنياً) والاقتصاد الحر، مثل الصين وسنغافورة والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وروسيا والنرويج وغيرها، مما ساهم في تحقيق استدامة اقتصادية وسيادة وطنية، بالتوازي مع نسبية زيادة الرفاه الاجتماعي في كل منها.
بل وحتى الولايات المتحدة الأمريكية وإنكلترا لديهما تلك الوصفة التوازنية، على العكس من بعض التصورات عنهما بما يخص الاقتصاد الحر ورأسمالية الدولة ودورها التدخلي!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1207