أهمية وضرورة إعادة انخراط المجتمع السوري في الحياة السياسية
لعب السوريون دوراً بارزاً في النضال السياسي خلال فترات الاحتلال والاستقلال، وكان لهم كذلك حضور قوي في المشهد السياسي العربي والإقليمي والدولي. ومع ذلك، ومع صعود الأنظمة القمعية، تحولت الحياة السياسية في البلاد إلى مجرد أدوات دعاية للسلطة.
فقد شهدت سورية لعقود طويلة نظاماً سياسياً قمعياً أفرغ الحياة السياسية من مضمونها، وحوّلها إلى مشهد شكلي يخدم السلطة فقط، بما تمثله من مصالح طبقية في بنيتها، التي تغيرت نسبياً خلال هذه العقود.
فقد تم تضييق الهوامش أمام الأحزاب السياسية المستقلة، أو وُضعت تحت السيطرة، وحُظرت التجمعات السياسية إلا بإذن من النظام، بالإضافة إلى الكثير من الممارسات القمعية المعممة التي لم تشمل السياسيين فقط، بل والكثير من ممثلي الفعاليات والأنشطة الاجتماعية والاقتصادية و...، ما أدى إلى شعور المواطنين بالعجز والإحباط، ودفع السوريين إلى الانسحاب من المجال العام والتركيز على تأمين متطلبات الحياة اليومية.
أدت هذه السياسات القمعية إلى تصحّر الحياة السياسية، حيث ضُيّقت الهوامش السياسية حدّ التلاشي، وجرى قمع أية محاولات للخروج عن المسار المرسوم من السلطة.
ونتيجة لذلك، ابتعد غالبية السوريين عن العمل السياسي وانشغلوا بتأمين احتياجاتهم المعيشية الأساسية، ما أضعف الوعي السياسي لدى السوريين وأبعدهم عن قضاياهم الوطنية والحقوقية.
وقد كان إرث الخوف من العمل السياسي من المفرزات السلبية الطبيعية لعقود القمع والاستبداد، وقد احتاج هذا الخوف إلى وقت وجهد لتجاوزه، ولم يستكمل بالشكل المطلوب واللازم بعد، ناهيك عن اهتزاز ثقة السوريين بالنخب السياسية خلال العقود الماضية، والتي تتطلب جهداً لإعادة بنائها كذلك الأمر.
فالعقود الماضية، وخاصة خلال سنوات الحرب، خلفت انقسامات حادة في المجتمع، جرى العمل الجدي على تظهيرها بشكل وهمي وكأنها انقسامات مناطقية وطائفية وقومية، لتغييب حقيقة الانقسام وجوهره المتمثل بالانقسام بين ناهبين ومنهوبين على طول الجغرافيا السورية، والتي تم تجييرها خلال سنوات الحرب لمصلحة قوى الأمر الواقع المسيطرة.
اليوم، وبعد كسر حاجز الخوف بشكل نسبي مع انفجار الأزمة في عام 2011، وبعد انهيار النظام والبدء باستكمال هدم هذا الحاجز، تبرز ضرورة ملحة لإعادة إحياء الحياة السياسية في المجتمع السوري، وإشراك فئاته المتنوعة كافة، من شباب وشيوخ، ورجال ونساء، في قضايا الشأن العام.
فالحياة السياسية ليست معزولة عن حياة الناس اليومية، بل هي صميمها، فالقضايا المعيشية، التي أُغرق فيها السوريون لعقود، لم تكن سوى وسيلة لإبعادهم عن السياسة.
فالقضايا المعيشية، مثل فرص العمل والأجور والأسعار والخدمات العامة وغيرها، ترتبط مباشرة بالسياسات العامة التي تتبعها الحكومات، لذا فإن وعي المواطنين بحقوقهم السياسية سيمكنهم من المطالبة بسياسات اقتصادية اجتماعية أكثر عدالة وكفاءة، وانتزاعها.
فإذا لم ينخرط السوريون في العمل السياسي بشكل فاعل فقد يُعاد إنتاج نظام استبدادي بوجوه جديدة، فالمشاركة السياسية الواعية هي الضمانة الوحيدة لحماية الحريات الفردية، ومنع تكرار سيناريوهات إعادة إنتاج الحكم القمعي، وأيضاً هي الضمانة الأساسية لحماية الحريات العامة، لأنها تتيح للمجتمع مراقبة أداء الحكومات القادمة، ومحاسبة المسؤولين، ومنع أية جهة من احتكار السلطة مجدداً.
وتبرز بهذا الصدد أهمية المشاركة الشعبية وتعزيز الديمقراطية، فالديمقراطية ليست مجرد صناديق اقتراع، بل هي ثقافة يومية تقوم على الحوار والنقاش بكل ما يرتبط بالحياة اليومية، وصولاً إلى المشاركة في اتخاذ القرار وتداول السلطة، ولا يمكن تحقيق هذا النموذج في سورية المستقبل ما لم ينخرط السوريون في الحياة السياسية، عبر المشاركة في النقاش العام، والانضمام إلى الأحزاب السياسية، ودعم مؤسسات المجتمع المدني التي تُعنى بهم وبقضاياهم.
المجتمع السوري غني وقوي بتنوعه، وأي نظام سياسي مستقبلي يجب أن يعكس هذا التنوع كي يستفيد المجتمع من قوته.
فلطالما عانت النساء والشباب من التهميش في الحياة السياسية، وإعادة إشراكهم في السياسة ضرورة لتحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة، والمرأة السورية أثبتت قدرتها على لعب أدوار هامة ومحورية، وينبغي أن تستمر في ذلك عبر تعزيز حضورها أكثر في الحياة السياسية وفي مواقع صنع القرار، والشباب هم وقود التغيير وطاقته المتجددة، ما يعني أن إشراكهم وانخراطهم بالعمل السياسي سيعزز فرص بناء مجتمع سياسي حيوي قادر على مواجهة التحديات المستقبلية.
فلا يمكن حماية التعددية بدون إشراك السوريين كافة في الحياة السياسية، وذلك لضمان إنهاء التهميش ومنع إعادته مجدداً، وبما يخلق التوازن والاستقرار الاجتماعي والسياسي.
وكذلك لا يمكن الحديث عن المشاركة السياسية دون ضمان الحريات الأساسية، وأهمها حرية التعبير والتنظيم، وهذه الضمانات هي دستورية وقانونية تضمن حماية نشاط السوريين السياسي من ممارسات القمع والكبت، وتمنع تدخل أجهزة السلطة في الشأن السياسي والحد من حرية التعبير والتنظيم.
وتحقيق المشاركة السياسية الفاعلة تفرض وجود أحزاب سياسية حقيقية تمثل مصالح المواطنين وتدافع عنها، في بيئة دستورية وقانونية ضامنة لحرية العمل الحزبي، مع عدم إغفال أهمية دور منظمات المجتمع المدني وفق ضمانات دستورية وضوابط قانونية.
ولعل أحد أهم بوابات تكريس المشاركة السياسية الواعية في المجتمع هي بوابة التعليم، على ذلك فإنه من الضروري والهام إدخال تعديلات على المناهج التعليمية لتعريف الطلاب بحقوقهم الدستورية والسياسية مع شروحات عن مبادئ التعددية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
وكذلك تبرز أهمية دور الإعلام، بوسائله المختلفة، كأحد الأدوات الهامة لتسليط الضوء على مكامن الخلل، بالإضافة إلى دوره على مستوى التوعية السياسية، باعتباره منبر نقاش سياسي اجتماعي اقتصادي...
إن إعادة انخراط المجتمع السوري في الحياة السياسية ليست ترفاً، بل ضرورةً مصيرية في اللحظة الراهنة، فلا يمكن ضمان مستقبل حر ومستقر لسورية ما لم يتحول العمل السياسي من نشاط نخبوي محصور في دوائر ضيقة، إلى عملية جماعية ومجمعية يشارك فيها جميع السوريين.
فمن دون مشاركة سياسية فاعلة، سيظل السوريون عرضة لأي نظام قمعي جديد، وسيفقدون القدرة على تقرير مصيرهم، فالمجتمعات التي تترك السياسة للنخب الحاكمة، سرعان ما تجد نفسها خاضعة للاستبداد من جديد، أما تلك التي تدرك أهمية الانخراط بالعمل السياسي، فإنها تضمن لنفسها الحريات والحقوق، وتحمي مستقبلها من التلاعب والقمع.
لذلك، من الهام العمل على بناء ثقافة سياسية جديدة، تؤمن بالتعددية والمشاركة والتداول السلمي للسلطة، خاصة أن الفرصة أصبحت الآن متاحة أمام كل السوريين للانخراط بالعمل السياسي لدعم الحوار السياسي السوري السوري تنفيذاً للقرار 2254، لبدء الخروج من الأزمة عبر الاتفاق على دستور وقانون انتخابي، وصولاً إلى عملية انتخابية ديمقراطية وشفافة تمثل السوريين بشكل فعلي، مع ضرورة إدراك أهمية اللحظة وضيق عامل الزمن أمام المخاطر المحدقة المنتصبة، وخاصة العدوان المستمر للكيان المحتل وتمدده على حساب السيادة الوطنية.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1205