التأثير المتبادل بين التشريع الإيجاري ومشكلة السكن (2)
ميلاد شوقي ميلاد شوقي

التأثير المتبادل بين التشريع الإيجاري ومشكلة السكن (2)

استعرضنا في المادة السابقة أهم الأحكام الإيجارية في القانون المدني، وصولاً إلى المرسوم التشريعي رقم /3/ المسمى قانون الإيجار الموسمي، وختمنا بالقول: «إن قانون الإيجار الموسمي لم يقدم حلاً للجانب القانوني، وخلق مشاكل اجتماعية عدة وحالة عدم استقرار لدى العائلات، حيث من غير الممكن أن يعامل المواطن الذي يسعى إلى تأمين مأوىً وسكن له- وهذا أدنى حق له في وطنه- بمثابة سائح أجنبي جاء للاصطياف فترة محددة وبأسعار مرتفعة نسبياً».

وقد كان هذا القانون بمثابة فلسفة جديدة في تنظيم قوانين الإيجار الخاصة تم تبنيها من قبل المشرع وهي إقرار قاعدة العقد شريعة المتعاقدين، وهو ما بدا تمهيداً لقانون الإيجار رقم 6 لعام 2001 الذي تبنى فلسفة مغايرة تماماً في تنظيم علاقات الإيجار، حيث تم عملياً تجريد القانون من بعده الاجتماعي وهو الجانب المهم جداً في علاقات الإيجار.

أهم ملامح قانون الإيجار رقم /6/ لعام 2001

من الأهمية بمكان أن نتعرف إلى مبررات صدور القانون من خلال أسبابه الموجبة، التي جاء فيها:
«تعتبر أحكام الإيجار جزءاً من الحقوق المدنية وأن لهذه الأحكام مزية خاصة، وأنها ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالحياة الاقتصادية والاجتماعية، وقد مضى على تطبيق قانون الإيجار /111/ تاريخ 1952 وتعديلاته مدة زمنية طويلة فظهر أثناء تطبيق هذا القانون الكثير من العيوب التي عكسها الواقع الاقتصادي والاجتماعي والعمراني والاجتهادات القضائية المتناقضة بين المحاكم، فكان لا بد من إعادة النظر به وبتعديلاته بشكل يتفق مع المصلحة العامة، وحسب المشرع أن يقرب وجهة النظر بين المؤجر والمستأجر ويقر مبادئ العدالة التي تتفق مع مصلحة المجتمع وظروفه انطلاقاً من الواقع الاقتصادي والاجتماعي في سورية والتقدم العمراني وبناء الجمعيات السكنية التعاونية من قبل القطاع العام والخاص وتوفر الشقق السكنية الفارغة التي يحجم مالكوها عن تأجيرها مطالبين بتطبيق قاعدة (العقد شريعة المتعاقدين) والمستأجرين الذين يتمسكون بقاعدة الحقوق المكتسبة، وبهدف تحقيق التوازن بين مصلحة المؤجرين والمستأجرين وتشجيع النمو الاقتصادي والعمراني وعدم إيجاد الخلل الاجتماعي والتوازن بين قاعدة العقد شريعة المتعاقدين وقاعدة الحقوق المكتسبة لنصل إلى قانون جديد للإيجار شامل حاكم للقضايا الإيجارية كافة، ونصوصه محكمة موحدة تشيع في نفوس المواطنين الهدوء والاستقرار والعدالة والمساواة فيما بينهم، آخذين بعين الاعتبار الظروف الاقتصادية والاجتماعية كافة، والتوسع السكني والعمراني في سورية واستقرار التشريع وتوحيد الحكم الواحد للقضايا المماثلة، مما أوجب إعادة النظر بالتشريعات الإيجارية الواردة بأحكام المرسوم التشريعي رقم /111/ لعام 1952 وتعديلاته وأحكام المرسوم رقم /3/ لعام 1987 وتوحيد هذه التشريعات جميعاً بقانون واحد والاستغناء عن الأحكام التي لم يعدلها موجب أو ضرورة واقعية وتعديل بعض الأحكام أو إضافة أحكام جديدة تنسجم مع هدفنا بالتحديث وتلبية حاجات المجتمع وتطوره الاجتماعي والاقتصادي». (انتهت الأسباب الموجبة للقانون الجديد).
الواضح أن إصدار القانون جاء تماشياً مع السياسات الاقتصادية الليبرالية التي كانت قد بدأت تشق طريقها في البلاد منذ مطلع الألفية، من خلال تهيئة البيئة التشريعية الليبرالية لتنفذ في جميع مجالات الحياة الاقتصادية والاجتماعية، بالتوازي مع تراجع وانحسار دور الدولة في تنظيم العلاقات في المجتمع وتركها لعلاقات السوق، تحت شعار العقد شريعة المتعاقدين.

الغايات والأهداف!

من تحليل الأسباب الموجبة يمكن تلخيص أهداف القانون بالنقاط الآتية:
أ ـ السعي إلى تحقيق التوازن بين مصلحة المؤجرين والمستأجرين.
ب ـ اعتماد مبدأ أن العقد شريعة المتعاقدين في العقود الجديدة.
جـ ـ حماية الحقوق المكتسبة والمراكز القانونية للمستأجرين القدامى.
د ـ إقرار مبدأ أحقية المالك في تقاضي بدل إيجار عادل.
هـ ـ أحقية المستأجر في تقاضي تعويض عادل لقاء إنهاء إيجاره السكني القديم.

فقد جاء القانون رقم /6/ للعام 2001 ليقنن الأحكام التالية:
1 ـ أصبح تأجير العقارات المعدة للسكن أو الاصطياف أو لاستعمالات الجهات الحكومية وما في حكمها يخضع لإرادة المتعاقدين. هذه الإرادة التي تعني إطلاق حرية التعاقد فيما يشمل: مدة العقد ـ بدل الإيجار. (المادة 1/ الفقرة أ) وهذا النص يأتي تعبيراً عن مبدأ العقد شريعة المتعاقدين.
2 ـ ازدادت بدلات إيجار العقارات المؤجرة للسكن أو لغيره المشمولة بالمرسوم التشريعي /187/ لعام 1970 إلى خمسة أمثالها على ألا تقل عن الأجر الاتفاقي الحالي. ولا يحق لطرفي العقد الادعاء بالغبن إلا بعد مرور خمس سنوات، اعتباراً من تاريخ نفاذ القانون الجديد في 21/2/2001، مع تدخل من جهة المشرع بزيادة بدل الإيجار لمدة زمنية محددة، يطلق بعد انتهائها حرية الادعاء بالغبن لطرفي العقد. وهذا النص يأتي أقرب ما يكون إلى مبدأ أحقية المالك في تقاضي بدل إيجار عادل.
3 ـ ينص القانون على أنه يحق للمالك في العقارات المؤجرة للسكن، فيما عدا العقارات المملوكة للجهات العامة أو المؤجرة لها، طلب إنهاء العلاقة الإيجارية واسترداد المأجور المخصص للسكن المشمول بأحكام التمديد القانوني مقابل التعويض على المستأجر بمبلغ يعادل نسبة /40%/ من قيمة البناء المأجور شاغراً وبوضعه الراهن، وذلك بعد ثلاث سنوات من تاريخ نفاذ هذا القانون (المادة 2/ الفقرة ب). وإذا كان هذا النص قد أقر بأحقية المستأجر في التعويض العادل لقاء إنهاء عقد إيجاره، غير أنه يقصر حق المطالبة بإنهاء العلاقة الإيجارية على المالك فقط دون المستأجر.
4 ـ اعتبر القانون الجديد عقد الإيجار المسجل لدى الوحدة الإدارية المختصة سنداً تنفيذياً، ويحق للمستأجر استرداد عقاره عند انتهاء المدة المحددة في عقد الإيجار عن طريق دائرة التنفيذ (المادة 4/ الفقرة أ).
5 ـ أبقى القانون على حالات الإخلاء بالنسبة للعقارات الخاضعة للتمديد الحكمي المؤجرة للسكن قبل نفاذ القانون الجديد مع بعض التعديلات الطفيفة (المادة 8). وبهذا النص احتفظ القانون الجديد بأحكام القانون القديم لجهة التحديد الحصري لحالات الإخلاء مع إضافة حالة الترك بالنسبة للمساكن.

آثار القانون الجديد

ندما تبنى المشرع سياسة التدخل وتنظيم علاقات الإيجار، واعتمد مبدأ التمديد الحكمي لعلاقات الإيجار، ألقى بكامل المسؤولية على المالك الذي خسر منزله، وبعد تعديل عام 2001 واعتماد مبدأ العقد شريعة المتعاقد وحرية التعاقد، ترك المواطن وحده في مواجهة تجار العقارات دون أي تدخل منه أو تأمين حماية له، خاصة أن البلاد تمر بظروف استثنائية، وفي ظل هذه الظروف كان من المفترض أن يزيد تدخل الدولة لمواجهة تلك الظروف الطارئة وليس الانسحاب وترك السوق تتحكم بالعلاقات في المجتمع.
فقد ترك القانون آثاراً سلبية كثيرة على المجتمع، مكرساً دور الدولة الخجول على مستوى حل مشكلة السكن والإسكان من خلال محدودية مشاريع المؤسسة العامة للإسكان، مع ترك السوق العقاري رهناً بيد تجار العقارات وسماسرته وفق مبدأ العقد شريعة المتعاقدين، وقد تفاقمت السلبيات خاصة بعد انفجار الأزمة السورية عام 2011 ونزوح ملايين السوريين داخلياً وانتقالهم مجبرين إلى الأماكن الآمنة نسبياً، حيث ارتفعت بدلات الإيجار إلى مستويات خيالية لا يستطيع المواطن البسيط أو العادي تأمينها مقابل منازل لا تصلح للسكن أساساً (مناطق المخالفات والعشوائيات التي زادت واتسعت)، أو أنها ما زالت في طور البناء، والتي اضطر المواطنون للإقامة فيها في ظل حالة الاكتظاظ السكاني التي شهدتها بعض المناطق، خاصة مراكز المدن.
واستمرت تبعاً لذلك بدلات الإيجار في الارتفاع بشكل جنوني وغير معقول، خاصة مع انهيار قيمة العملة وتحول أغلبية المالكين للتجارة في منازلهم وفرض شروطهم الخاصة والمجحفة على المستأجر الذي لا يملك لا وسيلة ولا حيلة للتفاوض مع المالك، لأن حقه كمواطن في تأمين سكن لائق بات مجرد سلعة في السوق في ظل انسحاب رسمي كامل للدولة من هذه القضية الأساسية ذات الآثار الاجتماعية المهمة على صعيد الاستقرار في المجتمع.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1189