قدرة السوريين على الاستهلاك تنحسر شيئاً فشيئاً!
معين بدر معين بدر

قدرة السوريين على الاستهلاك تنحسر شيئاً فشيئاً!

لا يقتصر الاستهلاك الإنساني على تلبية الاحتياجات المادية فقط، بل والروحية أيضاً، ليشكلا معاً ما يسمى بعادات وأنماط الاستهلاك، التي من المفترض أن تشبع الحاجات المادية والروحية نسبياً!

فها هم السوريون، وبعد مرور أكثر من ثلاثة عشر عاماً من الأزمة، يجبرون قسراً على تغيير عاداتهم الاستهلاكية، بما لا يتناسب مع احتياجاتهم المادية ولا الروحية حتى، حيث تتراجع يوماً بعد آخر قدرة السوريين على الاستهلاك، وتتآكل معها قدرتهم على البقاء أحياء، حتى وصلوا إلى الدرجة التي أصبحوا بها غير قادرين على تأمين احتياجاتهم الغذائية بالحد الأدنى!
ومن المعروف أن تراجع معدلات الاستهلاك لا تنعكس سلباً على معيشة وصحة المواطنين فقط، بل وكذلك تنعكس سلباً على دورة الإنتاج وعلى الاقتصاد الوطني عموماً!

ماذا تقول الأرقام الرسمية؟!

يوضح الجدول الآتي بيانات الاستهلاك العائلي بحسب المكتب المركزي للإحصاء، وقد أظهرنا نسبة الانخفاض فيها لعيّنة من السنوات بعد إعادة حسابها وفقاً لمتغيرات سعر الصرف الرسمي:

1189aa

يوضح الجدول أعلاه أن الإنفاق الاستهلاكي العائلي انخفض بنسب متفاوتة خلال السنوات المذكورة، حيث وصلت نسبة انخفاض الاستهلاك العائلي في عام 2022 إلى 35,81% عما كانت عليه في العام 2011، محسوبة بالاعتماد على سعر الصرف الرسمي البالغ 3015 ل.س في عام 2022، في حين أن سعر الصرف بالسوق الموازي بلغ في حينه حوالي 7000–7500 ل.س، وعليه فإن نسبة انخفاض الاستهلاك العائلي هي أعلى بكثير وتقدر بما لا يقل عن 74,19%، وبحال تقدير انخفاض الاستهلاك بالاعتماد على سعر الصرف التحوطي الذي يفرضه التجار أثناء تسعير منتجاتهم، المقدر بحوالي 10,000 ل.س في عام 2022، تصل النسب الحقيقية إلى انخفاض معدلات الاستهلاك إلى 80,64% تقريباً!
إن انخفاض قدرة وإمكانية السوريين على الاستهلاك بهذه المعدلات الخطِرة يعني ضمناً أنهم باتوا غير قادرين على تأمين الحد الأدنى من الاحتياجات الغذائية، إضافة إلى دلالته على تجاوز معدلات الفقر عتبات غير مسبوقة، وصولاً إلى تهديد وجودهم وقدرتهم على البقاء أحياء، وغيرها الكثير من النتائج الكارثية!

السياسات سبب رئيسي!

لا يمكن اختزال الأسباب الرئيسية لكل الكوارث الاقتصادية التي ضربت البلاد وحصرها فقط بالعقوبات الاقتصادية وسنوات الحرب كما يروج الرسميون، مع عدم نفي نتائجها أو التقليل منها طبعاً، إلا أن السياسات الاقتصادية المتبعة هي الأساس الأهم بذلك!
فتدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية يتراكم منذ سنوات ما قبل الحرب، وتحديداً مع المنعطفات الأساسية والتحولات الكبرى التي جرت بهذه السياسات بدءاً من عام 2005 مع تبني السياسات الليبرالية المتوحشة تحت مسمى اقتصاد السوق الاجتماعي!
وبلغة الأرقام يمكننا رصد التغيرات الحاصلة بالمؤشرات الأساسية التي تشير بشكل مباشر إلى الواقع الاقتصادي والاجتماعي لعموم السوريين، ومن ضمن هذه المؤشرات نذكر (معدل التضخم– حجم الإنفاق العام– حجم الدعم الحكومي– سياسات الأجور)، هذه المؤشرات التي تدل على مستوى فعالية الدولة وممارسة دورها فيما يخص تحسين الواقع الاقتصادي عموماً.

6342% نسبة التضخم بين 2011-2022

تشير البيانات الصادرة عن المكتب المركزي للإحصاء إلى أن معدلات التضخم آخذة بالارتفاع سنة بعد أخرى!
فعلى سبيل المثال فإن حساب معدل التضخم التراكمي بين عامي 2005 و2011 قدر بحوالي 48%، أي إن التضخم بين هذه السنوات كان يزيد سنة بعد أخرى بمعدل وسطي سنوياً 6,85% تقريباً، على اعتبار 2005 عام الأساس.
إلا أن معدلات التضخم ضمن سنوات الأزمة أسوأ من ذلك بكثير، حيث وصلت إلى مستويات مرتفعة قياسية لها تأثيراتها الكارثية على السوريين، خاصة مع تراجع القيمة الشرائية لليرة وسياسات الأجور شديدة التدني.
فبعد أن كان معدل التضخم التراكمي المقدر بين عامي 2005 و2011 حوالي 48% تضاعف بشكل غير مسبوق بين عامي 2011 و2022 ليصل إلى حوالي 6342% تقريباً، أي إن وسطي زيادة معدل التضخم سنوياً ضمن هذه الفترة يقدر بحوالي 55,88% تقريباً!

تراجع الدخل!

من أجل فهم تأثيرات معدلات التضخم الموضحة أعلاه، لا بد من توضيح بيانات مستويات الأجور والدخل ضمن السنوات موضع الدراسة، وذلك بالشكل الذي يوضح مدى تآكل قدرة السوريين المادية، وبالتالي قدرتهم على الاستهلاك، وبالمحصلة قدرتهم على البقاء أحياء.
ويوضح الجدول الآتي تبدلات الحد الأدنى للأجور بين عامي 2011-2022، مع حساب معادلها الدولاري استناداً إلى سعر الصرف الرسمي:

1189bb

الجدول أعلاه يوضح انخفاض الحد الأدنى للأجر بين عامي 2011 و2022 بنسبة لا تقل عن 75,38% تقريباً، وبالتالي نستنتج أنه وبالتزامن مع ارتفاع معدلات التضخم بمعدل وسطي 55,88% سنوياً خلال هذه الفترة، فإن قيمة الأجور بدلاً من أن تزيد بالمعدل نفسه على الأقل، إلا أنها آخذة بالانخفاض سنة بعد أخرى بمعدل وسطي يقدر بنسبة 13,8% تقريباً!
وإذا ما تم الاعتماد على سعر الصرف في السوق الموازي للعام 2022 نستنتج أن الحد الأدنى للأجور لا يتجاوز 12,37 دولاراً تقريباً، أي إن القدرة الشرائية للسوريين انخفضت بما لا يقل عن 90,1% تقريباً!
مع الأخذ بعين الاعتبار أن واقع الأجور في عام 2011 لا يؤمن الحد المطلوب لتغطية التكاليف المعيشية بمقاييس العام نفسه!
فالحد الأدنى لتكاليف المعيشة في حينه قدر بحوالي 24,000 ل.س لأسرة تتألف من خمسة أفراد، إلا أن الحد الأدنى للأجور كان 6,000 ل.س، وهو بالكاد يغطي 25% فقط من الحد الأدنى لتكاليف المعيشة!
ومع اشتداد تدهور الأوضاع الاقتصادية، ووصول معدلات التضخم وارتفاع الأسعار إلى مستويات غير مسبوقة فإن الحد الأدنى للأجور اليوم البالغ 280,000 ل.س لا يغطي من الحد الأدنى للمعيشة المقدر بـ 8,100,000 ل.س إلا نسبة 3,4% تقريباً!

تخفيض الإنفاق العام والدعم الحكومي!

مؤشر إضافي على تدهور الأوضاع الاقتصادية، هو تراجع دور الدولة الاجتماعي والاقتصادي، والمتمثل بحجم إنفاقها عموماً، وحجم إنفاقها على الدعم الاجتماعي خصوصاً (فيما يخص دعم بعض السلع والخدمات الأساسية).
فوفقاً لبيانات المكتب المركزي للإحصاء فإن الإنفاق الحكومي العام بلغ حوالي 754,000,000,000 ل.س في العام 2011، ما يعادل تقريباً حوالي 15,708,333,333 دولاراً وفقاً لسعر الصرف في حينه.
إلا أن حجم الإنفاق في عام 2022 بلغ 13,325,000,000,000 ل.س ما يعادل وفقاً لسعر الصرف الرسمي ما يقارب 4,419,568,823 دولاراً، وبالتالي فإن الإنفاق العام انخفض بنسبة 71,8% تقريباً بالمقارنة مع عام 2011!
انخفض كذلك الإنفاق على الدعم الاجتماعي أيضاً بنسبة لا تقل عن 68,8% تقريباً، فحجم الإنفاق على الدعم الاجتماعي في عام 2011 بلغ حوالي 300,000,000,000 ل.س، ما يعادل حوالي 6,250,000,000 دولار بالسعر الرسمي، ولكن الإنفاق على الدعم في عام 2022 بلغ 5,925,000,000 ل.س تقريباً وهذا يعادل وفقاً لسعر الصرف الرسمي ما يقرب من 1,965,174,129 دولاراً تقريباً!

أسباب إضافية لا تقل أهمية!

وضّحنا من خلال ما سبق، الأسباب الأساسية التي تؤثر بشكل مباشر على تراجع معدل الاستهلاك لعموم السوريين، بدءاً من معدل التضخم، مروراً بسياسات الأجور، وانتهاءً بحجم الإنفاق العام والإنفاق على الدعم الحكومي، علماً أنه توجد أسباب إضافية تساهم بدرجات كبيرة في تراجع معدلات الاستهلاك أيضاً، مثل السياسات النقدية والمالية والسعرية المتبعة!
وربما تكفي الإشارة إلى الانعكاسات السلبية للسياسات النقدية على مستوى متغيرات سعر الصرف، والانتقال بها صعوداً من عتبة إلى عتبة أعلى خلال السنوات الماضية، واعتماد أسعار رسمية مختلفة له، بالإضافة طبعاً إلى متغيرات سعر الصرف في السوق الموازي، والسعر التحوطي الذي تسعر به السلع والخدمات في الأسواق!

نتائج كارثية!

من المعلوم أن تراجع معدلات الاستهلاك لا يعني تدهور الحالة الصحية لعموم السوريين وانتشار الأمراض المرتبطة بسوء التغذية وانعدام الأمن الغذائي فقط، بل تؤدي أيضاً إلى تراجع في معدلات الإنتاج بمختلف القطاعات، وخاصة الزراعية والصناعية، وصولاً إلى تسجيل الخسارات في هذه القطاعات، والتي تؤدي بدورها إلى توقف الإنتاج كلاً أو جزءاً، مع ما يتبع ذلك من فقدان العاملين في هذه القطاعات لفرص عملهم، أي مزيد من البطالة، وصولاً إلى عزوف المستثمرين عن الاستثمار في هذه القطاعات وهجرة رؤوس الأموال خارج البلاد!
الجدول الآتي يبين تراجع إنتاج بعض المنتجات المرتبطة بشكل رئيسي بالاستهلاك العائلي، من واقع بيانات المكتب المركزي للإحصاء:

1189cc

يتضح من الجدول أعلاه حجم الانخفاض بكميات الإنتاج الزراعي بمختلف المنتجات المرتبطة بالاستهلاك العائلي، مع الأخذ بعين الاعتبار أن لتراجع الإنتاج الزراعي الموضح بالجدول أعلاه أسباباً متداخلة ومتشابكة!
فتراجع معدلات الاستهلاك يفسر جزءاً من أسباب انخفاض معدلات الإنتاج الزراعي، لكنّ هناك أسباباً أخرى ساهمت بشكل مباشر وغير مباشر بتراجع الإنتاج الزراعي، ولعل أهمها تخفيض الدعم على مستلزمات إنتاجه (المازوت– الأسمدة– البذار...)، وغيرها من الأسباب الأخرى!

عتبة الفقر وسوء التغذية وانعدام الأمن الغذائي!

وفقاً لإحصائيات منظمة الصحة العالمية للعام 2022 فإن أكثر من 90% من السوريين يعيشون تحت خط الفقر الأدنى، والذي يقدر بحوالي 2,1 دولار للفرد يومياً، علماً أن الحد الأدنى للأجور كما وضحناه أعلاه يعادل بشكل وسطي 1,02 دولار، وعلى اعتبار أن الأسرة التي يعيلها صاحب هذا الأجر مكونة من خمسة أفراد، فإن نصيب الفرد اليومي من الأجر يساوي حوالي 0,2 دولار تقريباً، وذلك بالاستناد إلى سعر الصرف الرسمي، أما فيما يخص الواقع الفعلي فإن حصة الفرد اليومية من الأجر تقدر بحوالي 0,084 دولار إذا ما أخذنا سعر الصرف في السوق الموازي لعام 2022!
وتشير آخر التقارير الصادرة عن منظمة الصحة العالمية في منتصف العام 2023 إلى أن أكثر من نصف السكان، ما يقارب 12,1 مليون شخص لم يتمكنوا من الحصول على ما يكفي من الغذاء الجيد أو تحمل تكلفته، وأن ما يقارب 15 مليون شخص بحاجة على الأقل لأحد أشكال المساعدات الإنسانية!
كما أوضحت منظمة اليونيسف بآخر تقاريرها ببداية العام 2024 أنه يعاني أكثر من 650 ألف طفل دون سن الخامسة من سوء التغذية المزمن- بزيادة قدرها حوالي 150 ألف طفل في السنوات الأربع منذ عام 2019!
ويتسبب سوء التغذية المزمن، أو التقزم، في أضرار لا يمكن عكسها أو تجاوزها للنمو البدني والمعرفي للأطفال، مما يؤثر على قدرتهم على التعلّم، وإنتاجيتهم ودخلهم لاحقاً في سن الرشد!

معلومات إضافية

العدد رقم:
1189