الدعم النقدي... سيناريو مبهم وغامض غايته قضم ما تبقى من الدعم... وأسئلة كثيرة بلا إجابات!

الدعم النقدي... سيناريو مبهم وغامض غايته قضم ما تبقى من الدعم... وأسئلة كثيرة بلا إجابات!

بعد أن خفضت الحكومة مخصصات الدعم لأبعد الحدود خلال السنين الماضية تحت عناوين مكررة ومستهلكة مثل: (إعادة هيكلة الدعم- عقلنة الإنفاق العام- إيصال الدعم إلى مستحقيه- محدودية الموارد)، والتي جربت فيها الكثير من الآليات التي انعكست سلباً على حياة ومعيشة المواطنين وعلى الأسواق، ها هي تعلن عن استكمال مسيرة قضم ما تبقى من الدعم من خلال تبنيها نموذج الدعم النقدي بدلاً من السلعي!

فقد قررت الحكومة تحويل الدعم من السلعي إلى النقدي وذلك «تماشياً مع توجهات إعادة هيكلة الدعم باتجاه الدعم النقدي المدروس والتدريجي»، مع منح مهلة 3 أشهر لأصحاب البطاقات كي يفتح كل منهم حسابه المصرفي الخاص به لهذه الغاية!

سيناريو غامض ومبهم!

لم توضح الحكومة تفصيلات آليتها الجديدة، وجل ما أوردته على صفحتها الرسمية كان عبارة عن لغو وحشو بغاية تمرير سيناريوهاتها الغامضة بملف الدعم وتحويله إلى نقدي، مع الطلب من المواطنين أصحاب البطاقات من مستحقي الدعم أن يفتحوا حسابات مصرفية، مع منح هؤلاء هامشاً زمنياً لمدة 3 أشهر لهذه الغاية، مما فسح المجال للكثير من التفسيرات والتأويلات والسيناريوهات التنفيذية المتوقعة!
فالمهلة التي منحتها الحكومة لفتح الحسابات المصرفية يبدو أن جزءاً من غايتها هي تحويل اهتمام المواطنين من أصحاب البطاقات وإلهاؤهم بفتح تلك الحسابات مع صعوباتها وتكاليفها، ثم تركهم منتظرين للسيناريو الغامض المرتقب وآلياته المبهمة التي لم يعلن عن تفاصيلها، من أجل استكمال مسيرة قضم الدعم بسلاسة، وإنهاء دور الدولة الاجتماعي!

فتح الحساب المصرفي عبء وتكلفة!

الطلب الحكومي بفتح حسابات مصرفية من قبل أصحاب البطاقات خلال مدة 3 أشهر يعني الكثير من الضغوط على المصارف العاملة، والكثير من الأعباء على المواطنين، كما يعني تكاليف مرتفعة عليهم!
فخلال 3 أشهر سيتوجه 4,5 ملايين صاحب بطاقة إلى المصارف لتنفيذ المطلوب، ما يعني أن حصة كل شهر تقريباً هي 1,5 مليون صاحب بطاقة، سيكونون مستنفرين داخل فروع المصارف وأمامها من أجل فتح حسابات جديدة أو تفعيل حسابات قديمة، وهذا الرقم لا شك أنه سيشكل عبئاً على كاهل المصارف العاملة والكادر العامل فيها!
وقد نقلت صحيفة الوطن عن أحد المدراء في مصرف عام ما يلي: «القرار الحكومي سيزيد الضغط على المصارف في الفترة القادمة لفتح حسابات جديدة لمن لا يملك حسابات من حاملي البطاقة الإلكترونية... تكلفة فتح الحساب لدى المصارف العامة 15 ألف ليرة سورية، مع إمكانية تغذية الحساب من صاحبه بأي مبلغ إضافي... تحويل الدعم إلى مادي يصرف عن طريق الصرافات مما سيتسبب بمشكلة كبيرة لا بد من حلها عبر توسيع ثقافة الدفع الإلكتروني لدى المواطنين ما يخفف من الضغط على التعامل النقدي وعدم اضطرارهم للمعاناة من ازدحام الصرافات!
وبحال كان وسطي التكلفة التي سيتكبدها كل مواطن صاحب بطاقة هي 20 ألف ليرة (15 ألف ليرة فتح حساب+5 آلاف ليرة مواصلات) فإن إجمالي المبلغ الذي سيدفع من قبل هؤلاء سيقارب 90 مليار ليرة، سيسحب من جيوبهم خلال مدة 3 أشهر بجرة قلم حكومية!

سيناريو مفتوح للأسوأ!

تحدثت الحكومة أيضاً عن «سياسة عقلنة الإنفاق العام والسعي إلى إيصال الدعم إلى مستحقيه بكلِّ كفاءة وعدالة»، ما يعني أن الأمر لن يقتصر على إلغاء الدعم على السلع المدعومة وتحويله إلى دعم نقدي فقط، بل ربما أن سيناريوهاتها المستقبلية ستبقى مفتوحة للأسوأ لتشمل أيضاً إنهاء الدعم على بعض الخدمات والقطاعات أيضاً، مثل الكهرباء والمياه والتعليم والطبابة وغيرها!
مع العلم أن هذه الخدمات والقطاعات لم تسلم من سيناريوهات قضم الدعم وتخفيض الإنفاق، بل مع فتح بوابات الاستثمار الخاص فيها على حساب الملكيات العامة ومصلحة المواطنين، في مساعي لاستكمال تهميش الدولة وإنهاء جزء إضافي من مهامها وواجباتها!

مصالح الناهبين والفاسدين محفوظة!

من المفروغ منه أن إنهاء الدعم السلعي وتحويله إلى نقدي يعني استكمال مسيرة تحرير أسعار السلع والخدمات وترك الأسواق لفوضاها والمتحكمين بها من كبار أصحاب الأرباح، كما يعني الحفاظ على مصالح شبكات النهب والفساد والسوق السوداء!
فمن الواضح أن الحكومة ستحافظ على ما تبقى من فتات الدعم عبر آليتها الجديدة التي ستحول الدعم من سلعي إلى نقدي، ليس من أجل مصلحة المواطنين طبعاً (في أفضل السيناريوهات المتوقعة بحسب د. على كنعان الأستاذ في كلية الاقتصاد أنه وفقاً للدراسات، فإن الأرقام المقترحة لقيمة الدعم النقدي تتراوح بين 50 إلى 300 ألف ليرة شهرياً لكل عائلة)، بل من أجل الحفاظ على مصالح شبكات النهب والفساد التي تعمل بعمق هذا الملف مستفيدة منه، وكذلك من أجل الحفاظ على مصالح شبكات السوق السوداء التي تعمل وتنشط بسبب سوء آليات العمل الحكومي في توزيع المخصصات غير الكافية لسد الحاجات الفعلية للمواطنين من المواد والسلع المدعومة، بل وغير المدعومة أيضاً!
وقد عبرت الحكومة بكل وضوح عن عجزها تجاه مسؤولياتها بما يخص مكافحة الفساد بحديثها عن «تحييد أي حلقات وسيطة قد تكون سبباً للهدر أو الفساد»، والأكثر من ذلك أنها مستمرة بتحميل المواطنين مسؤولية ذلك من خلال تبنيها نهج تخفيض الدعم بدلاً من تجفيف منابع الفساد وملاحقة شبكاته، وبدلاً من إنهاء مسببات الهدر!
وبهذا الصدد ربما تجدر الإشارة إلى ما كتبه وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك السابق عمرو سالم على صفحته الشخصية بتاريخ 27/6/2024، وهو لا شك عارف ومطلع على الكثير من خفايا الأمور بالعمل الحكومي بحكم موقعه السابق: «قرأت على وسائل التواصل وللأسف ما نسب إلى مصدر رسمي أن ربطة الخبز سترتفع تدريجيّاً مع دفعة نقديَة. وهذا إن صح فهو كارثة، لأن سرقة الخبز والدقيق هي بالتريليونات، وأي رفع تدريجي سيبقي على السرقة، وسيكون على حساب المواطن والخزينة معاً ولن يستفيد منه إلا اللصوص ولن يستطيع أحد ضبطهم، إضافة إلى أن الدفعة النقدية سترفع التضخم!
فالحكومة بدلاً من إعادة دراسة التكاليف بدقة وصولاً إلى سعر تكلفة حقيقي لما تبقى من سلع وخدمات بعهدتها ومسؤوليتها، يبدو أنها ستبقي على الكلف المرتفعة وغير الحقيقية التي تتضمن هوامش ونسب الهدر والفساد والنهب!!

المتبقي هزيل سلفاً!

ما تبقى من دعم بات هزيلاً جداً بعد قضمه تباعاً خلال السنين الماضية!
فالسكر والرز والشاي والزيت النباتي، كسلع مدعومة كانت السورية للتجارة تقوم بتأمينها وتوزيعها على المواطنين كمخصصات بحسب تعداد أفراد الأسرة، تم إنهاء دعمها بشكل كلي خلال السنين الماضية وعلى مراحل وفق آلية قضم ذرائعية غير مبررة!
والمتبقي من مواد سلعية مدعومة للمواطنين مستحقي الدعم، بعد تقليص الشرائح المستفيدة منه لأبعد الحدود (من خلال آلية تمييزية لم تثبت دقتها وصوابيتها بين من يستحق ومن لا يستحق)، هي الخبز ومازوت التدفئة والغاز المنزلي فقط، وهذه السلع أيضاً تم تخفيض مخصصاتها بشكل كبير أيضاً خلال السنين الماضية!
فالخبز وضع له سقف استهلاك بما يعادل 3 أرغفة للمواطن يومياً فقط لا غير، ومخصصات العائلة من مازوت التدفئة تقلصت إلى 50 ليتراً كدفعة وحيدة مسلمة خلال العام، والغاز المنزلي خفضت مخصصات العائلة إلى حدود 3-4 أسطوانات خلال العام!
أما على مستوى الخدمات فقد تم تعديل تعرفة الكهرباء مطلع العام الحالي بحيث تم تخفيض الدعم عليها، وأصبحت شرائح الاستهلاك المنزلي لأكثر من 1000 كيلو واط محررة، وكذلك تم تعديل تعرفة استهلاك المياه المنزلية وتم تخفيض الدعم عليها وأصبحت محررة لما يزيد عن معدل استهلاك 30 متراً مكعباً!
وبالنسبة للطبابة فقد أصبحت المشافي العامة تغطي جزءاً هاماً من نفقاتها من خلال مواردها الذاتية، مع فسح المجال للتشاركية مع القطاع الخاص في الاستثمار فيها!
أما بالنسبة للتعليم، وخاصة التعليم العالي العام، فقد أصبح جزء كبير منه مأجوراً (الموازي- المفتوح- الافتراضي)، بالإضافة إلى زيادة الاستثمار في الجامعات الخاصة!

أسئلة مشروعة بلا إجابات!

تزايدت الأسئلة المشروعة على ألسنة المواطنين بعد الإعلان الحكومي عن تحويل الدعم من سلعي إلى نقدي، وطلب فتح حسابات مصرفية من قبل كل صاحب بطاقة، ويمكن تلخيصها بالتالي:
هل ستعيد الحكومة الاعتبار لسلة المواد الغذائية المدعومة كمخصصات لكل فرد مستحق الدعم وفق النموذج النقدي (سكر – رز- شاي- زيت نباتي...)، أم إنها ستكتفي بما بقي من مواد مدعومة (خبز- مازوت تدفئة- غاز منزلي) فقط؟!
هل ستعيد الحكومة النظر بكم المخصصات من المواد والسلع المدعومة وفق الاحتياجات الفعلية للمواطنين، أم إنها ستكتفي بما وصلت إليه هذه المخصصات من كميات مخفضة وضئيلة بعد سلسلة القضم التي طالتها خلال السنين الماضية؟!
وهل ستبقي الحكومة على آليات التوزيع عبر البطاقة الذكية وفق المخصصات المسقوفة غير الكافية، أم إنها ستلغي العمل بهذه البطاقة؟!
على أي أساس سيتم حساب أسعار السلع الداخلة في آليات البدل النقدي، على أساس سعر التكلفة المتضمن هوامش ونسب الهدر والفساد والنهب، أم سيتم إعادة النظر بالتكلفة وصولاً إلى سعر التكلفة الحقيقي كي لا يتحمل المواطن جريرتها من جيبه وعلى حساب معيشته؟!
هل ستعتمد الحكومة المرونة في حساب الفارق السعري الذي ستحوله إلى بدل نقدي لصاحب الاستحقاق المدعوم، بحيث تعيد النظر فيه مع كل متغير في السعر والتكلفة، أم إنها ستجمده بحيث يصبح متآكلاً بسبب عوامل التضخم، وصولاً إلى مبلغ شبه صفري لا يقدم ولا يؤخر بأثره وفعله؟!
وما هي الإجراءات التي ستقوم بها الحكومة للحد من سلبيات استكمال مسيرة تحرير الأسعار في الأسواق، التي سيدفع ضريبتها مستحقو الدعم ومن هم خارج مظلة الدعم على السواء؟!
وهل البنية التحتية في المصارف العاملة (عامة وخاصة) قادرة على فتح حسابات جديدة بالملايين خلال مدة 3 أشهر؟!
وهل سيتم إعفاء عمليات السحب والإيداع الخاصة بالدعم النقدي من العمولات المصرفية، أم إن المواطن مستحق الدعم سيتحمل المزيد من التكاليف، والمصارف ستزيد من أرباحها على حسابه؟!

معلومات إضافية

العدد رقم:
1181