المياه.. زيادة التعرفة 400%  بالحد الأدنى.. ترشيد للاستهلاك أم تخفيض للدعم؟!
عاصي اسماعيل عاصي اسماعيل

المياه.. زيادة التعرفة 400% بالحد الأدنى.. ترشيد للاستهلاك أم تخفيض للدعم؟!

رفعت مؤسسة المياه تعرفة المتر المكعب لمياه الشرب للاستهلاك المنزلي وللدوائر الرسمية، وللقطاعات التجارية والصناعية والسياحية، وبنسب كبيرة، حدها الأدنى 400% للاستهلاك المنزلي!

وبحسب مصدر في وزارة الموارد المائية، نقلاً عن صحيفة الوطن بتاريخ 24/8/2023، أن «الهدف من القرار ترشيد استهلاك المياه للحد من الهدر وعدم الاستهتار بالسعر المنخفض، بغية الحفاظ على هذه الثروة المائية، الأمر الذي ينعكس على صعيد التخفيف من الاستهلاك».
وحسب المصدر فإن «أصحاب الاستهلاك الطبيعي من 1 متر مكعب وحتى 35 متراً مكعباً في الدورة، لن يتأثر على الإطلاق لتصل القيمة إلى 22 ليرة للمتر المكعب بحد أقصى لا تزيد إلا بالنسبة لأصحاب الاستهلاك فوق المنطقي (بحدود 125 لـ 150 ليتراً باليوم)، بما يصل إلى35 متراً مكعباً في الدورة».
فهل فعلاً لن يتأثر أصحاب الاستهلاك «الطبيعي» بالتعرفة الجديدة؟
وهل سقف استهلاك 35 متراً مكعباً في الدورة (مدة الدورة شهرين) كافٍ للأسرة أصلاً؟!
وما هو معدل الفقر المائي، وأين تكمن نسب الهدر الكبيرة بسبب سوء السياسات المائية المتبعة؟

التقنين والحدود «المنطقية»!

تجدر الإشارة بداية إلى أن المعاناة من أزمة المياه مستمرة بكافة المدن والبلدات، بسبب إجراءات التقنين وبسبب غياب الكهرباء وبسبب تردي الشبكة، وبالتالي لا تنطبق مقولة الاستهتار بالسعر المنخفض على الغالبية من المستهلكين المنزليين هنا، فكميات الاستهلاك المنزلي عبر الشبكة النظامية مخففة ومقننة وبحدودها الدنيا سلفاً!
أما أن يقال إن الحدود الطبيعية للاستهلاك المنزلي هي 35 متراً مكعباً في الدورة، فهو غير المنطقي!
فهذه الحدود محسوبة على ما يبدو على أساس إجراءات التقنين وواقع تردي الشبكة، بالتوازي مع إجراءات تخفيض الدعم الكمّية، وليس بحسب الاحتياجات الفعلية للمواطنين من المياه!
فواقع اللجوء إلى الصهاريج لتعبئة الخزانات في الكثير من المدن والبلدات بات أمراً طبيعياً لسد الفجوة المائية بينما يصل عبر الشبكة النظامية وبين الاحتياج الفعلي، مع التقشف!
فوسطي التعبئة التي يتم الاضطرار إليها عبر الصهاريج شهرياً تتراوح بين 10-15 مرة للأسرة، وكل مرة بواقع 5 براميل (أي متر مكعب واحد)، وبواقع 10-15 متراً مكعباً شهرياً، أي 20-30 متراً مكعباً خلال الدورة، وذلك إضافة إلى الوسطي «المنطقي» الذي تحدث عنه المصدر في وزارة الموارد المائية أعلاه بواقع 35 متراً مكعباً، ليصبح الوسطي الفعلي للاستهلاك الأسري يقارب 60 متراً مكعباً، وذلك بالحدود الدنيا (للشرب والغسيل والتغسيل والتنظيف والجلي و..)!
مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذا الكم من الاستهلاك قريب من معدلات الاستهلاك الشخصي والمنزلي المحسوبة من قبل بعض المنظمات الأممية التابعة للأمم المتحدة.

فاتورة الاستهلاك المنزلي ارتفعت 400% بالحد الأدنى!

بموجب التعرفة الجديدة حافظت بعض شرائح الاستهلاك المنزلي على سعرها وذلك حتى الشريحة الرابعة فقط، بواقع تعرفة (7-15- 22 ليرة، للشرائح الثانية- الثالثة- الرابعة على التتالي)، فيما ارتفعت تعرفة بقية شرائح الاستهلاك (من الشريحة الخامسة وحتى الشريحة الثامنة) بنسب كبيرة جداً!
الجدول التالي يبين نسب الزيادة في التعرفة للشرائح الخامسة والسادسة والسابعة والثامنة، والتي تحسب على أساسها كامل كمية الاستهلاك اعتباراً من أول متر مكعب تم استهلاكه:

1137a

على ذلك فإن قيمة الاستهلاك المنزلي التجميعية حتى سقف الاستهلاك للشريحة الرابعة (35 متراً مكعباً فقط) بحسب التعرفة التي تم الحفاظ عليها لهذه الشرائح بقيت 440 ليرة فقط.
أما حتى سقف الكمية للشريحة الخامسة البالغ 50 متراً مكعباً، وهو وسطي الاستهلاك المتقشف للأسرة خلال الدورة مع الترشيد الشديد، فتصبح بموجب التعرفة الجديدة 7500 ليرة، بينما كانت بحسب التعرفة القديمة 1500 ليرة، وبنسبة زيادة 400%!
مع الأخذ بعين الاعتبار ما تتضمنه الفاتورة من إضافات ورسوم كثيرة أخرى، بعضها مقطوع وبعضها نسبة محسوبة على قيمة كمية الاستهلاك، لترتفع الفاتورة بالمحصلة بشكل كبير!
وبالتالي على الأسرة أن تسقف معدلات استهلاكها الشهري عبر الشبكة الرسمية بما لا يتجاوز 25 متراً مكعباً في الدورة لتبقى ضمن حسابات الشريحة الخامسة، أي أقل من متر مكعب واحد باليوم، وإلا فإن فاتورة استهلاكها ستقفز إلى الشريحة السادسة، ولتصبح قيمتها بعشرات الآلاف من الليرات، وليس بالآلاف فقط!

الكارثة بالشرائح الأعلى للأسر الأكبر!

إن قيمة الاستهلاك بما يتجاوز كمية 50 متراً مكعباً، أي اعتباراً من الشريحة السادسة، والتي تحتسب على كامل كمية الاستهلاك أصبحت كبيرة جداً، والجدول التالي يبين قيمة استهلاكها بحسب التعرفة الجديدة:

1137b

استناداً إلى الجدول أعلاه فإن كمية استهلاك تتجاوز 51 متراً مكعباً في الدورة تبدأ قيمتها بسعر 20 ألف ليرة لتصل إلى سقف قيمة الشريحة 32,000 ليرة المبين في الجدول، وتصبح الطامة أكبر في شرائح الاستهلاك المنزلي الأعلى، والتي ستتكبدها الأسر ذات تعداد الأفراد الكبير!
وبكل اختصار فإن التعرفة الجديدة تتضمن تخفيضاً كبيراً على دعم المياه اعتباراً من شريحة الاستهلاك الخامسة المستهدفة بشكل خاص من هذه التعرفة على ما يبدو، والتي تشمل غالبية المستهلكين من الناحية العملية، وبالنسب الكبيرة المبينة أعلاه، إضافة إلى إجراءات تخفيض الدعم ناحية الكم عبر آليات التقنين المتبعة!

كيف ستصبح تكلفة التعبئة عبر الصهاريج؟!

الزيادة في التعرفة الرسمية أعلاه للاستهلاك المنزلي سترفع أسعار التعبئة الاضطرارية عبر الصهاريج لتغطية نقص الاحتياج المائي الأسري من كل بد!
فإذا كانت تكلفة تعبئة المتر المكعب (5 براميل) تقارب 35 ألف ليرة الآن، بسبب عدم توفر المياه عبر الشبكة الرسمية، وبوسطي شهري يقارب 350 ألف ليرة تتكبدها الأسرة اضطراراً على حساب ضروراتها الأخرى، فكيف ستصبح هذه التكلفة بعد رفع السعر الرسمي الجديد، وكيف ستتحمل الغالبية من الأسر المفقرة تلك التكاليف الإضافية (الرسمية وغير الرسمية)؟!

الزيادة للدوائر الرسمية والفعاليات الاقتصادية بوسطي 1600%!

ارتفعت تعرفة المتر المكعب للدوائر الرسمية من 50 ليرة/متر مكعب ولكامل الكمية، إلى 1000 ليرة/متر مكعب لكامل الكمية، وبنسبة زيادة 1900% دفعة واحدة!
أما الاشتراكات التجارية والصناعية والسياحية فقد أصبحت على الشكل التالي، 1000 ليرة للشريحة الأولى عن الكمية المستهلكة من 1 وحتى 10 أمتار مكعبة، وبقيمة 1500 ليرة بالنسبة للشريحة الثانية من 11 وحتى 60 متراً مكعباً، وبـ3000 ليرة للشريحة 61 متراً مكعباً فما فوق، بينما كانت بموجب التعرفة القديمة 120 ليرة/متر مكعب لكامل الكمية، أي بنسبة زيادة تتراوح بين 733-2400%!
وهذه الزيادة في التعرفة الجديدة، وبنسبة زيادة وسطية تبلغ 1600%، هي تخفيض كبير على الدعم لهذه الجهات والفعاليات أيضاً، وستنعكس على تكاليفها بنسب متفاوتة طبعاً!

تخفيض الدعم على حساب المواطنين!

تخفيض الدعم المباشر على أصحاب الاستهلاك المنزلي من المواطنين يبدأ اعتباراً من زيادة قيمة فاتورة استهلاكهم بنسبة 400% بالحد الأدنى كما هو مبين أعلاه، لترتفع إلى نسب كبيرة جداً بعد كمية استهلاك 51 متراً مكعباً في الدورة للأسر ذات التعداد الأسري الكبير، ولا ينتهي بنسبة تخفيض الدعم المتأتية من زيادة التعرفة على الفعاليات الاقتصادية بوسطي 1600%، والتي ستضاف إلى تكاليفها وستنعكس سعراً على سلعها وخدماتها بنسب متباينة، والتي ستجبى بالمحصلة من جيوبهم أيضاً!
فمعمل صغير للألبان والأجبان على سبيل المثال وبمعدل استهلاك متقشف يقدر بـ100 متر مكعب في الدورة فقط، فإن قيمة استهلاكه كانت 12,000 ليرة بحسب التعرفة القديمة، وقد تكون هذه القيمة مهملة في حسابات التكاليف الإجمالية للمعمل، بينما أصبحت بموجب التعرفة الجديدة 300 ألف ليرة، بحيث لا يمكن إهمالها في حسابات التكلفة من الآن فصاعداً، لتظهر من خلال أسعار منتجاته وسلعه، وقس على ذلك بالنسبة لكل الفعاليات وتكاليفها وأسعارها!

حصة المواطن دون عتبة الفقر المائي ومزيد من التخفيض والضغط!

إن عبارات الحد من الهدر وترشيد الاستهلاك وغيرها ما هي إلا مبررات وذرائع لهذا الشكل الجديد من تخفيض الدعم (المباشر عبر السعر وغير المباشر عبر الكم)، الذي يدفع ضريبته المواطن على حساب معيشته وخدماته!
ونستشهد على ذلك بما قاله الدكتور المهندس محمد بشار المفتي، عضو الهيئة التدريسية في جامعة دمشق، عبر صحيفة البعث بتاريخ 26/4/2023، بأن «قضية المياه في سورية مركبة نظراً للمعاناة من مشكلات عديدة، أولها شحّ المياه وتدمير جزء كبير من أنظمة التغذية بالمياه في فترة الحرب»!
وبحسب المفتي «المفارقة تكمن في المناطق التي تتوفر فيها المياه ويعاني سكانها من نقص حاد، كالمناطق الساحلية، هذا إلى جانب عدم توفر الطاقة الضرورية (مازوت وكهرباء) لتأمين المياه، ما يجعل المشكلة مركبة ومعقدة، خاصة وأن مؤسسات المياه غير قادرة حالياً– بسبب نقص مواردها المالية– على إعادة تأهيل شبكاتها التي تعرّضت للتخريب خلال فترة الحرب، حيث يتمّ استجرار وسرقة كميات كبيرة من المياه غير مخطّط لها، وطبعاً كل ذلك من دون أي عائد مادي لمؤسسات المياه»!
وتكشف المقارنة بين حصة الفرد من المياه عالمياً وما يحصل عليه المواطن في بلدنا عن فارق كبير، حيث بلغ خط فقر المياه المتعارف عليه 1000 م3 للفرد سنوياً، فيما قُدِّرَ المتوسط العالمي للفرد 6750 م3 سنوياً، في حين بلغت الكمية المتاحة للمواطن السوري قبل الحرب 700 م3 سنوياً، وتعتبر تحت خط الفقر، لتنخفض بعد الحرب إلى 600 م3، أي ما يُعادِل عشر النسب العالمية فقط!
وأكد المفتي أن «نسبة هدر المياه المستخدمة في الزراعة تعتبر من النسب المرتفعة، بسبب استخدام أساليب الري التقليدية وعدم استخدام الأساليب الحديثة، ما نتج عنه ضياع وهدر كميات كبيرة جداً وخاصةً لري محاصيل غير مجدية اقتصادياً وتتطلب كميات كبيرة من المياه، لافتاً إلى أن نسبة توزع استخدامات المياه للاستهلاكات المنزلية تصل إلى 7,2%، فيما تستهلك الصناعة 2,7%، وتحصل الزراعة على الحصة الأكبر بنسبة تصل إلى 79%، مع 11% تبخر، وبالتالي فإننا ومهما هدرنا من المياه في استخدامات مختلفة فإنها لا تُعادل 1% مما يُهدر في الزراعة، مشيراً إلى عدم وجود خطة مدروسة في استهلاك المياه، واعتبر أن توفير 10% من المياه المستخدمة في الزراعة يُعادل كل ما يستخدمه السكان»!
أمام الحديث الأكاديمي المختص أعلاه تبدو إجراءات وزارة الموارد المائية المتمثلة بزيادة تعرفة المياه غير ذات معنى على مستوى الغايات المعلنة منها وهي «ترشيد استهلاك المياه للحد من الهدر وعدم الاستهتار بالسعر المنخفض، بغية الحفاظ على هذه الثروة المائية، الأمر الذي ينعكس على صعيد التخفيف من الاستهلاك»، بحسب حديث المصدر في الوزارة أعلاه!
فالسياسات المائية الصائبة، وخطط الاستهلاك المدروسة، وإخراج المواطن من تحت عتبة الفقر المائي، وتأهيل الشبكات، ومنع التعديات، وتوفير المشتقات النفطية، وغيرها من العناوين الكثيرة الأخرى المرتبطة بالمياه والأمن المائي، آخر ما يعني الرسميين على ما يبدو!
ليتبين بالتالي أن الغاية الفعلية رسمياً هي مزيد من إجراءات تخفيض الدعم الجائرة (كماً وسعراً) التي يدفع المواطن ضريبتها فقط لا غير، ومزيد من الضغوطات عليه!

معلومات إضافية

العدد رقم:
1137