من الأمية بمفهومها المعاصر إلى التجهيل.. بالأرقام الرسمية!
عاصي اسماعيل عاصي اسماعيل

من الأمية بمفهومها المعاصر إلى التجهيل.. بالأرقام الرسمية!

التراجع المستمر في العملية التعليمية متعدد الأسباب، وجميعها بعهدة ومسؤولية السياسات الحكومية، بجميع وزاراتها، وخاصة المعنية مباشرة بقطاع التعليم الحيوي والهام (وزارتي التربية والتعليم العالي)، ولا شك أن هذا التراجع المطرد ليس بمصلحة البلاد والعباد حاضراً ومستقبلاً!

ومن الأسباب الأساسية للتراجع وتكريسه نورد التالي مما هو معروف ومكرر: تراجع الإنفاق العام على قطاع التعليم- نقص أعداد المعلمين- اكتظاظ الشعب الصفية- نقص مستلزمات العملية التعليمية- تراجع جودة التعليم، وغيرها الكثير من الأسباب الأخرى، بما في ذلك كل عوامل التصفية والفرز ذات الجوهر الطبقي، اعتباراً من معدلات القبول في مراحل التعليم الثانوي والجامعي، مروراً بالعمليات الامتحانية، وليس انتهاءً بخصخصة التعليم الجارية على كل مراحله، والتي بمجموعها تعتبر من النتائج المباشرة لمجمل السياسات الاقتصادية الليبرالية المطبقة، بنموذجها الأكثر تشوهاً وتوحشاً!
والمشكلة بهذا الجانب لا تقتصر على أعداد الأطفال غير الملتحقين بالمدارس فقط، برغم تضخم نسبة هؤلاء، فبحسب بيانات مؤسسات الأمم المتحدة هناك 12% من الأطفال السوريين غير ملتحقين بالمدارس، وهناك أكثر من مليوني طفل سوري (تتراوح أعمارهم بين 6 و17 عاماً) لم يلتحقوا بالمدرسة!
لكن المشكلة تبدو أكبر وأكثر تفاقماً مع تزايد أعداد المتسربين من استكمال العملية التعليمية في مراحلها المختلفة أيضاً!

الأرقام الرسمية تتحدث!

في الإصدار الأخير للمجموعة الإحصائية الصادرة عن المكتب المركزي للإحصاء لعام 2022 تم إيراد الكثير من المؤشرات الرقمية والبيانات الإحصائية، بما في ذلك عن واقع التعليم والعملية التعليمية.
فمن باب فصل التعليم والثقافة نورد البيانات التالية حول مجموع أعداد تلاميذ (ذكور وإناث) في مرحلة التعليم الأساسي (حلقة أولى وحلقة ثانية) في المدارس الرسمية والخاصة ووكالة الغوث:

1124a

البيانات الرقمية أعلاه تجميعية لكل مرحلة التعليم الأساسي، فالحلقة الأولى هي مجموع الصفوف من الأول وحتى السادس، والحلقة الثانية هي مجموع الصفوف من السابع حتى التاسع، ومن الواضح بداية أن هناك تناقصاً كبيراً في أعداد الطلاب بين الحلقة الأولى والثانية، أي هناك تسرب كبير من المدارس وانقطاع عن استكمال العملية التعليمية في مرحلة التعليم الأساسي التي من المفترض أنها إلزامية!
فالأرقام أعلاه تشير إلى وجود أكثر من مليون ونصف المليون تلميذ سنوياً لم يستكملوا تعلمهم في الحلقة الثانية من مرحلة التعليم الأساسي، وبنسبة وسطية تتجاوز 60%، والتي تتحفنا وزارة التربية بادعاءاتها حول إيجابية سياساتها التعليمية بمناهجها التطويرية وببرامجها الترميمية والتعويضية للمتسربين والمنقطعين، والتي تترافق مع الكثير من البهرجة والتغطية الإعلامية، والتي تسقط تماماً أمام المعطيات الرقمية الرسمية أعلاه!

نسب التسرب والانقطاع في مرحلة التعليم الثانوي كبيرة أيضاً!

ومن البيانات الإحصائية نورد الجدول التالي عن أعداد الطلاب (ذكور وإناث) في مرحلة التعليم الثانوي:

1124b

المقارنة التي تفرض نفسها هنا أيضاً هي بين مجموع أعداد طلاب مرحلة التعليم الأساسي (حلقة ثانية) بحسب الجدول السابق الخاص بهذه المرحلة، بالمقارنة مع مجموع أعداد طلاب مرحلة التعليم الثانوي، والتي توضح استمرار النزف والتسرب من استكمال التعلم والانقطاع عنه في مرحلة التعليم الثانوي!
ففي عام 2017 مثلاً كان مجموع عدد طلاب التعليم الأساسي التجميعي للحلقة الثانية يبلغ 881,999 طالباً وطالبة، وبالمقارنة مع مجموع أعداد طلاب التجميعي لمرحلة التعليم الثانوي في عام 2018 البالغ 358,093 طالباً وطالبة، كمدخلات ومخرجات عددية، يتبين أن هناك فرقاً وقدره 523,906 طلاب وطالبات، وهو عبارة عن تجميع لأعداد كبيرة لم تستكمل تعليمها الثانوي، وبنسبة تقارب 60% أيضاً!
والمقارنة الأعظم هي بين الأعداد التجميعية لطلاب الحلقة الأولى من مرحلة التعليم الأساسي مع أعداد الطلاب التجميعية في مرحلة التعليم الثانوي، والتي تظهر أن هناك نزفاً يقارب مليوني تلميذ وتلميذة من الحلقة الأولى لم يستكملوا تعلمهم وصولاً إلى المرحلة الثانوية!
ففي عام 2021 كان مجموع أعداد تلاميذ الحلقة الأولى من مرحلة التعليم الأساسي يبلغ 2,119,049 تلميذاً وتلميذة، بينما كان مجموع أعداد طلاب مرحلة التعليم الثانوي يبلغ 383,011 طالباً وطالبة!

مرحلة التعليم الجامعي أكثر سوءاً!

فيما يلي جدول يتضمن أعداد طلاب مرحلة التعليم الجامعي (ذكور وإناث) في الجامعات الحكومية (دمشق- حلب- تشرين- البعث- الفرات- حماة- طرطوس) بحسب بيانات المكتب المركزي للإحصاء الأخيرة عن عام 2020:

1124c

توضح بيانات الجدول أعلاه الفارق العددي الكبير بين المستجدين والخريجين في الجامعات الحكومية، وهو ما يمثل نزفاً إضافياً على مستوى استكمال مرحلة التعلم الجامعي، وبنسبة تتجاوز 65% وسطياً، وهي نسبة كبيرة وأكثر إيلاماً!
فمن وصل إلى مرحلة التعليم الجامعي، بعد كل التصفيات الماراثونية على مستوى مراحل التعليم السابقة (الأساسي- الثانوي)، تمت فلترته بعوامل التصفية الأخيرة في مرحلة التعليم الجامعي، وصولاً إلى هذه النسبة الكبيرة من النزف والاستنزاف!

اعتمادات ضئيلة جداً!

تخصص الدول عادة اعتمادات كبيرة لقطاع التعليم في موازناتها السنوية، وذلك نظراً لأهمية هذا القطاع، وتأثيره المباشر على عجلة الاقتصاد ومعدلات التنمية المنشودة في كل دولة، والتي تقدر وسطياً في الكثير من الدول بحدود 14% من موازناتها السنوية.
فماذا عن اعتمادات موازناتنا لهذه الغاية؟!
من جدول النفقات التقديرية في الموازنة العامة للدولة في عام 2021 بحسب بيانات المكتب المركزي للإحصاء، نورد الجدول التالي:

11242

من الواضح أن الاعتمادات المرصودة ونسبها محدودة وضئيلة جداً، ليس أمام مهام وواجبات وقف النزف المستمر المبين رقمياً أعلاه بالحد الأدنى، بحال توفر النية الرسمية في ذلك طبعاً، بل أمام المهام والواجبات المفترضة لهذا القطاع الهام على المستوى الوطني حاضراً ومستقبلاً، مع الأخذ بعين الاعتبار واقع تآكل هذه الاعتمادات بفعل عوامل التضخم، والتي يضاف إليها عوامل النهب والفساد التي تطال جزءاً منها!

الضرورة الوطنية والنهج التخريبي!

من المفترض أن حق التعليم من الحقوق المصانة قانوناً ودستوراً، ومجانيته على مستوى كافة مراحل التعليم أصبحت تتجاوز موضوعة الحق بهذا الجانب، باعتبار أن مفهوم الأمية بحد ذاته تجاوز ومنذ زمن موضوعة تعلم القراءة والكتابة فقط، وأصبح بعصر ثورة المعلوماتية مقترناً بمهام أعلى وأكبر بكثير على مستوى المهام الوطنية العامة، وعلى كافة مستوياتها، وهو المغيب قصداً وعمداً بحكم سيطرة وهيمنة القابضين على مفاصل عمل الدولة من كبار أصحاب الأرباح، المستفيدين من جملة السياسات المنحازة طبقياً لمصلحتهم، بما في ذلك السياسات التعليمية!
فالواقع الرقمي أعلاه لا يشير إلى النتائج الكارثية لتراجع العملية التعليمية وتكريس أمية القراءة والكتابة فقط، بل يشير إلى النموذج الطبقي الذي تسير عليه جملة السياسات بهذا الخصوص، وصولاً إلى تكريس الأمية التكنولوجية في عصر ثورة التقانات الرقمية، التي باتت معياراً من معايير قياس تطور الأمم والشعوب وارتقائها!
وبالتالي فإن الاستمرار بهذا النهج التخريبي، وتلك السياسات التدميرية، بالضد تماماً من مصلحة العباد والبلاد، ليس على مستوى نتائج الحاضر المعاش الكارثية فقط، بل وعلى مستوى المستقبل، القريب والبعيد!

معلومات إضافية

العدد رقم:
1124