مواسم البطاطا.. ضمان مصالح أصحاب الأرباح على حساب الفلاح والمستهلك والأمن الغذائي!
عاصي اسماعيل عاصي اسماعيل

مواسم البطاطا.. ضمان مصالح أصحاب الأرباح على حساب الفلاح والمستهلك والأمن الغذائي!

وافق رئيس مجلس الوزراء بتاريخ 18/5/2023 على توصية اللجنة الاقتصادية المتضمنة «فتح باب التصدير لمادة بطاطا الطعام للكميات الفائضة عن حاجة السوق المحلية والمقدّرة بكمية 40 ألف طن وذلك حتى نفاد الكمية، على أن تقوم وزارة الزراعة والاتحاد العام للفلاحين واتحاد غرف الزراعة السورية بمراقبة السوق».

وبحسب صفحة الحكومة الرسمية «تأتي الموافقة على تصدير هذه الكميات من مادة بطاطا الطعام الفائضة عن حاجة السوق المحلية بغية دعم الفلاحين وضمان عدم تعرضهم للخسارة».
فهل الغاية فعلاً هي دعم الفلاحين وضمان عدم تعرضهم للخسارة، أم ضمان أرباح المصدرين، ومصالح أصحاب الأرباح عموماً؟!

وفرة بالإنتاج لم يستفد منها الفلاح!

موسم البطاطا الحالي في نهايته، والحديث هنا عن العروة الربيعية الحالية التي أتت بعد الانتهاء من العروة الخريفية، ومن الواضح أن هناك وفرة وفائضاً فيه، وأسعاره في السوق كانت مستقرة نسبياً، لكن ذلك لا يعني أن الفلاح حقق الجدوى منه!
فبحسب بعض الفلاحين فإن تكلفة كيلو البطاطا تقدر بحدود 1000 ليرة وسطياً، وهؤلاء اضطروا لبيعه بنفس سعر التكلفة للتجار للحد من خسائرهم، بل وفي الغالب فإن التجار اشتروه بأقل من ذلك نظراً لزيادة الإنتاج، واستغلالاً للفلاحين بسبب ذلك!
وقد أكد ذلك رئيس الاتحاد العام للفلاحين نهاية الأسبوع الماضي، حيث نقل عنه قوله: «سعر مبيع كيلو البطاطا في أسواق حماة على سبيل المثال يتراوح بين 400 و500 ليرة، على حين أن تكلفته على الفلاح بحدود 1000 ليرة ويبيعه بخسارة.. الكميات المنتجة من مادة البطاطا للموسم الحالي كبيرة وأكثر من حاجة السوق، لذا نحن كاتحاد فلاحين مع فتح باب تصدير المادة حالياً كي لا يستمر الفلاح بتحمل الخسائر».
وكذلك تم التأكيد من قبل عضو لجنة تجار ومصدري الخضار والفواكه محمد العقاد، الذي نقل عنه قوله: «سعر مبيع كيلو البطاطا في سوق الهال يتراوح بين 700 و1000 ليرة، وتكلفته على الفلاح أكثر من ذلك»!
مقابل ذلك فإن سعر الكيلو في الأسواق للمستهلك يتراوح بين 2000-3000 ليرة، وهو قد يبدو مناسباً للمستهلكين نسبياً، وخاصة الغالبية المفقرة التي تعتبر البطاطا بالنسبة إليهم سلعة استهلاك غذائية رئيسية، لكنه ليس مضمون الاستمرارية مع فتح باب التصدير والبدء فيه!
أما الفارق السعري بين ما يتقاضاه الفلاح وسعر السوق، فجزء منه لتغطية تكاليف النقل والتحميل والتنزيل وصولاً إلى أسواق الاستهلاك، والجزء الآخر والأكبر هي الهوامش الربحية لحلقات الوساطة التجارية، تجار الجملة والمفرق!

تكاليف مستمرة بالارتفاع دون توقف!

التكاليف التي تحدث عنها الفلاحون تتمثل بالتالي: الفلاحة- التسكيب- الزراعة- التسميد- الري- التعشيب- المكافحة- الحصاد- التعبئة- نقل المحصول.
بالإضافة إلى ما سبق هناك تكاليف مستلزمات الإنتاج التي يمكن تلخيصها بالتالي: البذار- الوقود- السماد- المبيدات- المياه- العبوات.
وبحسب الفلاحين فإن هذه التكاليف مستمرة بالارتفاع، وغالبيتها كمستلزمات إنتاج متحكم بها من قبل التجار، والاستثناء الذي يؤكد القاعدة هو ما يوفره المصرف الزراعي منها، فغالبية المستلزمات مستوردة ومتحكم بها نوعاً وسعراً من قبل التجار!
وبعد كل ذلك هناك الكثير من النفقات النثرية الأخرى، مع عدم تغييب بدل أجار واستثمار الأرض!

1123-12

الإنتاج والاحتياج والفائض للتصدير!

ما سبق أعلاه يوضح أن الوفرة في الإنتاج غطت الاحتياج المحلي وساهمت باستقرار سعري للمادة في الأسواق بشكل نسبي حالياً، لكن كان ذلك على حساب خسارة الفلاحين عملياً، فالموسم انتهى والفلاح سجل خسارته مسبقاً فيه!
مقابل ذلك فقد بدأت عمليات تخزين المحصول لتحضيره وتجهيزه بغاية التصدير، الذي فُتح بابه بموجب التوصية أعلاه، بغض النظر عن استكمال سد الاحتياجات المحلية للفترة المقبلة!
فالموسم بغالبيته استحوذ عليه التجار بعد الضغط على الفلاح بالأسعار، متحكمين بسعر السوق وكمياته، وصولاً إلى الحديث عن الفائض منه من أجل تصديره، وهو ما تضمنته توصية اللجنة الاقتصادية، مع تقدير كمية الفائض بـ40 ألف طن تم السماح بتصديرها حتى نفادها!
فالحديث الرسمي عن التصدير كما يبدو أعلاه يدور عن «التوقعات» حول فائض الإنتاج وكمياته، وليس عن واقع الإنتاج الفعلي بالمقارنة مع احتياجات الاستهلاك المحلي!
ومن المتوقع أنه مع بدء عمليات التصدير، بالكميات المعلن عنها وصولاً إلى استنفادها، ستتأثر الاحتياجات المحلية وذلك على مستوى الأسعار بالحد الأدنى، إن لم يكن على مستوى الكميات الكافية لسد هذه الاحتياجات!
على ذلك فمن غير المستبعد أن يتم الاضطرار للجوء إلى الاستيراد لسد فجوة نقص الاحتياج المحلي من المادة خلال الفترة القريبة القادمة، تماماً كما جرى سابقاً من خلال استيراد كميات من البطاطا من مصر!
ففي منتصف شباط الماضي وافقت الحكومة على استيراد البطاطا من مصر بكمية 20 ألف طن اعتباراً من 15 شباط وحتى 15 آذار وذلك لسد النقص في احتياجات السوق المحلية.
والنتيجة أن الترجمة العملية للتوصية أعلاه لن تختلف عن سابقاتها من موافقات التصدير التي تصب في جيوب المصدرين والمستوردين على شكل أرباح، على حساب الفلاح، كما على حساب المستهلك المحلي، وعلى حساب الأمن الغذائي بالمحصلة!

مشكلة التخزين!

لعله من الأجدى اقتصادياً أن يتم تخزين فائض الإنتاج الحالي من موسم البطاطا، لإعادة طرحه بالأسواق المحلية عند عدم كفاية المتوفر لتغطية الاحتياجات المحلية منه، بدلاً من تصديره، لكن ذلك غير وارد في الحسابات الرسمية على ما يبدو، فإمكانات التخزين (الحكومية والخاصة) مستمرة بمحدوديتها، بل ولا نية لزيادتها أو تذليل صعوبات استثمار ما هو موجود منها!
فقد قال رئيس الاتحاد العام للفلاحين إن «نوعية البطاطا المنتجة قابلة للتخزين لكن المشكلة أن السورية للتجارة ليس لديها إمكانية لتخزين كميات كبيرة من المادة»
أما عضو لجنة تجار ومصدري الخضر والفواكه فقد قال: «ليس هناك أية إمكانية لتخزين المادة نتيجة عدم توفر برادات كافية لتخزين كميات كبيرة من المادة وعدم توفر الكهرباء اللازمة لتشغيل البرادات».
والنتيجة بعد ذلك أن وفرة الإنتاج، التي من المفترض أن تكون إيجابية، يتم التعامل الرسمي معها كمشكلة خاصة بالفلاحين على حساب خسارتهم، وبحيث تصبح بوابات التصدير بالنتيجة هي الملاذ الوحيد للخروج منها، ولو كان من نتائج ذلك الاضطرار للاستيراد لاحقاً!
فزيادة المساحات المزروعة، وبالتالي زيادة كميات الإنتاج، لم تنعكس إيجاباً لا على الفلاح ولا على المستهلك ولا على حسابات الاقتصاد الكلي!

البيانات الرسمية تؤكد!

بحسب بيانات المجموعة الإحصائية الصادرة مؤخراً عن عام 2022، يتبين أن محصول البطاطا سجل تبايناً محدوداً في الأعوام المرصودة، على مستوى المساحة وكم الإنتاج ومعدل إنتاج الغلة، والجدول التالي يوضح ذلك:

1123a

قد تبدو التباينات في الجدول أعلاه محدودة وقليلة، لكنها دون أدنى شك تعتبر من نتائج السياسات الزراعية المطبقة ارتجالاً على هذا المحصول دون الاهتمام الجدي فيه، بل وتركه من الناحية العملية للفلاح!
فلا مساحات مخططة مسبقاً، ولا كم إنتاج مستهدف، ويضاف إلى ذلك الانعكاسات السلبية لسياسات تخفيض الدعم على الإنتاج عموماً، والمستمرة بنتائجها السلبية من كل بد طالما استمرت الحكومة بنفس سياستها ونهجها!

مقارنة تفرض نفسها!

وللمقارنة تجدر الإشارة إلى أن كمية صادرات البطاطا في عام 2021 بلغت 28,904 أطنان، وذلك بحسب بيانات المكتب المركزي للإحصاء الصادرة مؤخراً عن عام 2022.
ولا تتوفر بيانات رسمية عن كمية صادرات البطاطا لعام 2022، فالسماح بالتصدير في عام 2022 جرى في شهر حزيران بموجب قرار من وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية، وبنسبة 15% من إنتاج العروتين الربيعية والصيفية، شريطة قيام مراكز الحجر في وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي بتدقيق الكميات المصدرة، وإعلام وزارة الاقتصاد بتلك الكميات.
فكم الصادرات البالغ 28,904 أطنان في عام 2021، بالمقارنة مع حجم الإنتاج البالغ 594,6 ألف طن، يشكل نسبة 5% تقريباً من حجم الإنتاج.
على ذلك، كنسبة وتناسب، فإن الموافقة على تصدير 40 ألف طن أعلاه تعني أن كم الإنتاج الحالي تم تقديره رسمياً بـ800 ألف طن، وهو تقدير يبدو مرتفعاً ومفائلاً جداً بالمقارنة مع كم الإنتاج السنوي المبين في الجدول السابق!

المصالح المحمية لأصحاب الأرباح!

ولعل الغاية من كل ما سبق تظهر بكل وضوح وهي تحقيق وضمان أعلى معدلات ربح للمصدرين، بغض النظر عن تغطية الاحتياجات المحلية من المادة، وربما مع نية مبيتة لتكريس استيراد المادة من خلال القضاء على إنتاجها!
فالخسائر التي تكبدها الفلاح هذا الموسم ستدفعه للعزوف عن زراعة البطاطا في المواسم القادمة، أو تخفيض مساحة زراعتها على أقل تقدير، وذلك للحد من خسائره، ما يعني زيادة الاضطرار لعمليات الاستيراد، وزيادة كمياتها أيضاً، وهو المطلوب والمعمم رسمياً كنهج وسياسات، ليس على مستوى محصول البطاطا فقط، بل وعلى مستوى كل المحاصيل الزراعية، بما في ذلك الإستراتيجية، وعلى كل الإنتاج (الزراعي- الصناعي)!
فمصالح كبار أصحاب الأرباح (مستوردين- مصدرين- وما بينهما من فاسدين وأصحاب نفوذ) مضمونة كلاً وجزءاً من خلال السياسات الرسمية المتبعة، مقابل الإضرار المباشر بمصالح البقية الباقية من السوريين وبالاقتصاد الوطني وبالمصلحة الوطنية!

أهمية إستراتيجية غير منظورة رسمياً!

تعتبر البطاطا، بالإضافة إلى أنها مصدر غذاء رئيسي تدخل في سلة الغذاء اليومي للمواطنين ما يضعها ضمن حسابات الأمن الغذائي افتراضاً، فهي مادة خام تدخل في العديد من الصناعات الغذائية مثل: (النشاء- الكحول- الشيبس..) وغيرها الكثير من الصناعات الأخرى أيضاً، وكذلك تعتبر مادة علفية غنية بالطاقة للمجترات، وخاصة الأبقار.
على ذلك فإن محصول البطاطا يمكن اعتباره من المحاصيل الإستراتيجية، ليس لارتباطه بالأمن الغذائي للمواطنين فقط، بل لكونه مادة أولية تدخل في الكثير من الصناعات التي تحمل منتجاتها قيمة مضافة، بالإضافة إلى ما توفره من فرص عمل بالإنتاج المباشر وغير المباشر، بالإضافة إلى كونه محصولاً تصديرياً (كمادة خام، وكمنتجات مصنعة منه).
وتتزايد أهمية المحصول محلياً لكونه بثلاث عروات إنتاجية تغطي كامل العام، كالتالي:
العروة الربيعية تبدأ زراعتها في شهري كانون الثاني وشباط، ويبدأ قلعها في شهر حزيران.
العروة الخريفية تبدأ زراعتها في منتصف تموز وحتى منتصف آب، ويبدأ قلعها اعتباراً من تشرين الثاني ولغاية شباط، وهي الرئيسية من حيث المساحة وكم الإنتاج.
العروة الصيفية تتخلل العروتين الربيعية والخريفية، وهي صغيرة بالمساحة ومحدودة بالإنتاج عادة، وتبدأ زراعتها خلال شهر نيسان وتستمر لغاية منتصف أيار، ويبدأ قلعها في شهر آب.
وهذه العروات على مدار العام، باختلاف مساحات زراعتها وكميات إنتاجها، تمنح محصول البطاطا ميزة توافره للاستهلاك المحلي طازجاً وبأسعار مقبولة، وتفسح المجال لتصدير الفائض الفعلي منه إلى الأسواق المستهدفة طازجاً أيضاً.
لكن هذه الأهمية الإستراتيجية لمحصول البطاطا غير منظورة رسمياً، والوقائع المسجلة تؤكد ذلك بكل موسم وكل عام، ويمكن لحظ ذلك بالمستويات التالية على أقل تقدير:
على مستوى خطط المساحات والإنتاج، والاستفادة القصوى من العروات الثلاث، وبما يغطي احتياجات الاستهلاك المحلي وصولاً إلى الاكتفاء الذاتي دون اللجوء إلى الاستيراد!
على مستوى تطوير وتحسين البذار التي يتم إكثارها محلياً، للحد من استيرادها والاكتفاء الذاتي منها وتصديرها أيضاً، وبما يناسب كل عروة، بظروفها الجوية الملائمة وتبعاً لمكان زراعتها وشروطها الإضافية الخاصة.
على مستوى إجراءات التخزين المفترض اتخاذها لفائض الإنتاج في كل عروة، سواء من أجل سد احتياجات الاستهلاك المحلي، أو من أجل كفاية حاجات الصناعات الوطنية منه!
على مستوى استقراره وزيادته وتحسين نوعيته، ليس من أجل تصدير الفائض الفعلي منه فقط، بل من أجل زيادة وتنويع الصناعات الذي يدخل فيها هذا المحصول كمادة أولية في إنتاجها، بما يسد الحاجات المحلية من هذه الصناعات ويفتح أسواق تصدير إضافية لها!
على مستوى التنمية الاقتصادية الاجتماعية عموماً، وتطوير المناطق الريفية وتحسين دخل المنتجين وتخفيف الفقر وضمان الأمن الغذائي خصوصاً.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1123
آخر تعديل على الأحد, 21 أيار 2023 23:26