إضاءات مختصرة على الكارثة وما بعدها.. بين الدور الأهلي والمجتمعي والدور الحكومي!
وقعت الكارثة وزلزلت الأرض، وانهارت المئات من المباني وحصدت الآلاف من الضحايا والمصابين، وخلفت عشرات الآلاف من المنكوبين والمشردين، وتضررت آلاف المباني السكنية الأخرى، وأصبح بعضها متصدعاً ويشكل خطراً على ساكنيها، أي عشرات الآلاف الإضافيين من فاقدي المأوى، بالإضافة إلى الأضرار التي لحقت ببعض المباني والمنشآت الحكومية، وبالبنى التحتية المتهتكة أصلاً في المناطق التي ضربها الزلزال، كما غيرها من المناطق!
الكارثة كبيرة بنتائجها وتداعياتها، وبآثارها الحالية والمستقبلية المفتوحة على مزيد من المآسي، وهي تشكل إضافة نوعية جديدة على الكارثة المستمرة التي يعيشها السوريون منذ تفجر الأزمة وحتى الآن، حرباً ودماراً وتهتكاً وتقسيماً، بتفاصيلها الكارثية المرعبة على كافة المستويات، الاقتصادية والمعيشية والخدمية، وبضحاياها ومصابيها ومنكوبيها، وبمشرديها بين نازحين داخلاً ولاجئين في أصقاع الأرض!
فماذا بعد؟
وهل يكفي التذرع بالطبيعة كمسبب للكارثة الحالية للتحلل من المسؤوليات والواجبات، كما هي الحال بالتذرع بالحرب الكونية والعقوبات والحصار، طيلة سني الحرب والأزمة وحتى الآن، لتبرير ما لا يمكن تبريره من الموبقات، نهباً واستغلالاً وفساداً وإفساداً، ولاستمرار الوضع على ما هو عليه، بل لزيادة الأزمات والكوارث على السوريين؟!
التكاتف الأهلي والمجتمعي بأبهى صوره رغم مساعي الإجهاض!
بدأت الجهود الأهلية والمجتمعية، بإمكاناتها المحدودة والمتواضعة بالمقارنة مع حجم الكارثة الكبير، ومنذ اللحظة الأولى للكارثة، بتقديم المؤازرة والمساعدة للمتضررين والمنكوبين، وفي عمليات إزالة الأنقاض، بالأيدي وببعض المعدات البسيطة، بحثاً عن ناجين يمكن إنقاذهم، وفي تأمين مساكن إيواء مؤقتة للبعض ممن شردتهم الكارثة بحسب المتاح والمتواضع، وفي جمع التبرعات العينية والنقدية للتخفيف قدر الإمكان من حجم الكارثة على المنكوبين.
وقد امتلأت جميع مراكز استقبال المساعدات الأهلية في جميع المحافظات والمدن السورية بكل ما هو متاح ومتوفر وقابل للتبرع من السوريين، الأغذية بمختلف أنواعها، والأدوية بمختلف أصنافها، والألبسة بتنوعها ولمختلف الأعمار، والحرامات والأغطية والفراش، والمنظفات والمعقمات، وغيرها الكثير مما يندرج ضمن إطار المساعدات العينية.
وقد تم تسيير الشاحنات التي تنقل هذه المساعدات إلى المناطق المنكوبة، بعد فرزها وتبويبها، من أجل سهولة توزيعها على المتضررين عند وصولها.
ليس ذلك فقط، بل امتدت حملات التبرع إلى الدم، وصولاً إلى الاكتفاء والفائض من كل الزمر، بما في ذلك الزمر النادرة.
وكذلك فقد كانت المساعدات النقدية حاضرة، من الداخل والخارج، عبر البوابات الفردية المباشرة، ومن خلال العمل الأهلي والمجتمعي المنظم.
وقد تعرضت بعض الجهود الأهلية والمجتمعية للكثير من المعيقات والصعوبات، على الرغم من أن بعضها ذو طابع منظم، وله خبرات متراكمة في المجال الإغاثي طيلة سني الحرب والأزمة، وكأن هناك مساعي إجهاض لهذه المبادرات الأهلية والمجتمعية كي لا تصل إلى مبتغاها وغايتها، بل والتشكيك بها والتقليل من أهميتها والتبخيس بها، لكن وعلى الرغم من كل ذلك ما زالت الجهود الأهلية والمجتمعية مستمرة وغير عابئة بمساعي التيئيس والإحباط!
فقد أثبتت المبادرات الأهلية والمجتمعية في المساعدة وعمليات الإغاثة وجمع التبرعات وتوزيعها أهميتها وجدارتها، تاركة أثراً إيجابياً كبيراً لدى عموم السوريين الذين أنهكتهم سنوات الحرب والأزمة وكوارثها المستمرة، لتظهر مجدداً، وعلى السطح وفي العلن هذه المرة، وعلى طول الرقعة الجغرافية لسورية، ومن السوريين خارج سورية أيضاً، عناصر الوحدة والتكاتف الاجتماعي بين كل السوريين بأبهى صورها، مسقطة كل ثنائيات الصراع والتقسيم الوهمية التي عكفت على تكريسها القوى المتشددة والمستفيدة من الأزمة، داخلاً وخارجاً، لمصلحتها!
الثقة المعدومة بين المجتمع الأهلي والحكومة
ولعل أمر انعدام الثقة بين الجهات الأهلية والحكومية كان له انعكاس سلبي على إيصال المساعدات الى المتضررين، خاصة بعد الإعلان الرسمي عن حصر استلام المساعدات وتوزيعها عبر اللجنة العليا للإغاثة، التي تقوم بدورها بتوزيعها على المحافظات المتضررة، الأمر الذي أدى إلى انخفاض زخم العمل الأهلي مع كل أسف، والأسوأ هو عامل الزمن الثقيل على المتضررين المحتاجين للمساعدات الفورية، والمستهلك بالروتين وفقاً لهذه الآلية، على العكس من مرونة العمل الأهلي!
مع العلم أن اللجنة العليا للإغاثة سبق أن اختبر المجتمع الأهلي دورها بما يخص متضرري ومنكوبي الحرب، ممن فقدوا بيوتهم وممتلكاتهم ومقتنياتهم، فلا تعويضات حصلوا عليها، ولا سكناً بديل آواهم، بالرغم مما تم تخصيصه من اعتمادات لهذه اللجنة وباسم المتضررين، وما قيل عن تعويضات يمكن صرفها من خلالها للمستحقين، لكن بقي كل ذلك حبراً على ورق، وللتسويق والترويج الإعلامي فقط لا غير!
أما على مستوى المساعدات عبر الأقنية الحكومية المباشرة وغير المباشرة فحدث بلا حرج عما أصابها من نهب وفساد ومحسوبيات، وقد سبق أن تم تسليط الضوء على بعض أوجه الفساد فيها من خلال الكثير من وسائل الإعلام، الرسمية وغير الرسمية، في السنوات الماضية!
فكيف من الممكن إعادة الثقة بالحكومة وباللجنة العليا للإغاثة بعد كل ذلك؟!
وكيف للمتضررين أنفسهم أن يثقوا بأن بعض حقوقهم من المساعدات ستصلهم بإنصاف، بعيداً عن عوامل النهب والمحسوبية والفساد؟!
جيل الأزمة الذي ينتظر فرصته!
أما اللافت فقد كان بحملات التطوع التي انخرط بها جيل الشباب، هذا الجيل الذي تفتح وعيه خلال سني الحرب والأزمة، وقد سدت الأبواب أمامه مغلقة عليه الأفق، مع مساعي تيئيسه من إمكاناته ومن مستقبله، لتفجر الكارثة الجديدة طاقاته الإيجابية المكبوتة، ولتظهر للعلن أن هذا الجيل بانتظار فرصته ليثبت من خلالها ما يمتلك من إمكانات، سواء على المستوى الفردي أو من خلال أشكال التنظيم الجماعي للعمل الذي انخرطوا فيه، مع بروز الحدود القصوى من نكران الذات أمام الهم المجتمعي العام، بمهامه ومسؤولياته وواجباته.
ولعلنا لا نبالغ بالقول إن ذلك شكل صفعة لقوى التقسيم والتذرير المجتمعي، التي عكفت منذ ما قبل تفجر الأزمة، وطيلة سني الحرب وحتى الآن، على تكريس النموذج الفردي المشوه بالخلاص، مع تعميق كل ظواهر التفسيخ المجتمعي السلبية، مستهدفة جيل الشباب تحديداً، تحطيماً وتيئيساً وإحباطاً، ليُسقط هذا الجيل الشاب كل ذلك في غمضة عين عندما اتيحت له الفرصة لذلك.
فهل من الممكن القول رب ضارة نافعة بهذا المجال؟!
الجهود الرسمية والحكومية دون المستوى المطلوب!
استنفرت الجهات الحكومية والرسمية إمكاناتها على إثر الكارثة، وهو أمر مفروغ منه افتراضاً، حيث عقدت الحكومة اجتماعاتها العادية والاستثنائية التي خصصتها لبحث الكارثة بنتائجها وتداعياتها، مع التوجيهات بزج الإمكانات لإزالة الأنقاض ولعمليات الإنقاذ ولمساعدة المنكوبين ولتحديد أماكن لإيواء المشردين، مع القيام ببعض الجولات الميدانية على المناطق المنكوبة، وأخيراً من خلال «اعتبار المناطق المتضررة في محافظات حلب واللاذقية وحماة وإدلب نتيجة الزلزال الذي أصابها مناطق منكوبة وبما يترتب على ذلك من آثار».
وكذلك تم إقرار «إحداث صندوق وطني لإعادة تأهيل المناطق المنكوبة وتقديم كل الدعم الممكن للمتضررين، وتسهيل دخول كافة التبرعات والمبادرات الإغاثية بكل الوسائل وتفويض الوزراء المعنيين بموضوع التعاطي مع هذه المساعدات عن طريق اللجنة العليا للإغاثة».
وكذلك جرى التشديد على: «وضع خارطة لتنظيم العمل في المناطق المنكوبة وتحديد الأدوار المطلوبة من كل جهة في مجال إحصاء الأضرار وتحديد الأبنية المدمرة والأبنية القابلة للتدعيم والأبنية الآيلة للسقوط ليتم التعامل معها وتسريع عودة العائلات إلى الأبنية القابلة للسكن، وتوجيه المحافظين باتخاذ القرارات اللازمة للتعامل مع الأبنية الآيلة للسقوط من خلال لجان السلامة الإنشائية ونقابة المهندسين والشركة العامة للدراسات الهندسية وضرورة وضع إشارات دلالة واضحة على الأبنية الآيلة للسقوط ريثما يتم التعامل معها».
مما لا شك فيه أن حجم الكارثة أكبر من الإمكانات المتاحة حكومياً، لكن ومع كل أسف لم ترق الإجراءات والجهود الحكومية «الاستثنائية» لحدود زرع الطمأنينة في نفوس المتضررين والمنكوبين من الكارثة بشكل مباشر، ناهيك عن الثقة المفقودة أصلاً بالإجراءات والسياسات الحكومية عموماً!
فبعد عمليات إحصاء الأضرار التي تم التوجيه بها لم يتم التعهد مثلاً بتأمين سكن بديل لمن تهدم مسكنه، أو لمن اضطر أو سيضطر للإخلاء بسبب التصدع، سواء بشكل عاجل أو على مراحل، على أقل تقدير!
بل تم ترك الأمر بالنسبة لهؤلاء للمحافظين وبعهدتهم، أي تخلي الحكومة عن دورها وواجبها تجاههم رسمياً، ما يعني أن هؤلاء المتضررين المباشرين من الكارثة سيتركون كما ترك مئات الآلاف قبلهم ممن فقد بيته وخسر ممتلكاته خلال سني الحرب!
العين الساهرة.. تطالب بالشفافية!
من اللافت أيضاً أن بعض المواطنين من المهتمين بدأوا بتوثيق وجمع ما يتم الإعلان عنه من تبرعات ومساعدات من قبل بعض الجهات المجتمعية والشخصيات غير الرسمية والمبادرات الأهلية، بالإضافة إلى ما يتم الإعلان عنه من تبرعات من جهات رسمية ودولية ومنظمات أممية، وخاصة النقدية منها.
وهي بحسب بعض هؤلاء المهتمين، وبعد إسقاط ما يشك به من معلومات متداولة فيسبوكياً، بلغت مئات المليارات من الليرات السورية، بالإضافة إلى عشرات الملايين من الدولارات، وآلاف الأطنان من المساعدات العينية.
والغاية من ذلك الجهد وتلك المتابعة هي المطالبة بالشفافية بما يخص معرفة كيفية التصرف بهذه المساعدات والتبرعات وأوجه صرفها، وهل وصلت إلى مستحقيها من المتضررين؟!
ولعل الإجابة عن ذلك ستبقى في عهدة الحكومة، واللجنة العليا للإغاثة، بانتظار ما سترشح عنه الشفافية الرسمية، بحال وجدت، بهذا الصدد!
ماذا بعد؟!
بحسب الأمم المتحدة فإن أعداد المتضررين من الكارثة تجاوز 5 ملايين سوري، وهي إضافة عددية كبيرة على أعداد منكوبي الحرب والأزمة السابقين، والحال كذلك فإن غالبية السوريين أصبحوا في عداد المنكوبين والمتضررين من جملة الكوارث المستمرة منذ تفجر الأزمة وحتى الآن، ضحايا ومصابين ومشردين و..
وهؤلاء لا تقتصر احتياجاتهم على العمليات الإغاثية المتمثلة بسلال المساعدات الغذائية فقط، على أهميتها طبعاً، بل هناك الكثير من الاحتياجات الضرورية الأخرى، اعتباراً من تأمين المأوى والسكن، مروراً بمقومات الحياة على المستوى المعيشي والخدمي والتعليمي والصحي والنفسي و..، وليس آخراً بفرص العمل التي تقيهم شرور الحاجة والعوز، مع عدم تغييب أهمية عوامل الاستقرار والأمان طبعاً!
فهل من الممكن أن تؤمن كل تلك الاحتياجات والضرورات للمنكوبين من السوريين على طول الخارطة السورية في ظل استمرار نفس الظروف القائمة المولدة للمزيد من الكوارث والأزمات، وفي ظل استمرار تقسيم الأمر الواقع، والمستفيدين منه نفوذاً وتسلطاً في مناطق التقسيم، من أمراء الحرب وتجار أزمة وحيتان النهب والفساد؟!
فلعله من الاستحالة استمرار الوضع على ما هو عليه، كما يريد ويرغب هؤلاء المستفيدون، المتغولون على حساب استمرار الكوارث التي يدفع ضريبتها عموم السوريين، لكن ذلك مشروط، وبكل اختصار، بالبدء بالحل السياسي عبر القرار الدولي 2254 كبوابة عبور نحو التغيير الجذري والعميق والشامل، ليس للخلاص من البنى المتهتكة التي تعيش على أنقاض سورية والسوريين نهباً وفساداً وتقويضاً للإمكانات، بل لفسح المجال أمام السوريين أنفسهم لتقرير مصيرهم بأنفسهم!
تعليمات السلامة وصكوك البراءة!
الكارثة التي تعامل معها الرسميون على أنها مفاجأة لم تكن كذلك، فالحديث عن الزلازل وتأثيرها المدمر بحال حدوثها ليس مستجداً، وربما بهذا الصدد تجدر الإشارة إلى أن المركز الوطني للزلازل كان قد رصد 935 هزة خلال الربع الأول من عام 2020 فقط، توزعت بشكل عام على الصفيحة العربية والمحيطة بها.
وكانت سورية قد شهدت بحينه عدة هزات أرضية متفاوتة الشدة، كانت أقواها بتاريخ 15/4/2020 بحسب المركز الوطني للزلازل بشدة قدرها 4,7 درجات على مقياس ريختر، وعمق 10 كم، تبعد مسافة 38 كم عن مدينة اللاذقية، وتم الشعور بها في معظم المدن السورية، إضافة إلى العديد من الهزات الارتدادية.
وقد أصدرت الحكومة بوقتها تعليمات بما يخص التعامل مع الهزات الأرضية بحال حدوثها، مع التأكيد على التقيد ببعض تعليمات السلامة العامة الصادرة رسمياً بما يخص الأبنية!
وفي مادة لقاسيون بعنوان: «عشرات الهزات الأرضية خلال أقل من شهر.. هل الخشية مشروعة؟» بتاريخ 20/4/2020 تساءلنا: هل يعتبر إصدار بعض تعليمات السلامة بما يخص الهزات والزلازل، كافياً للتحلل من المسؤوليات؟
ومما ورد فيها نقتطع التالي: «واقع الحال يقول: إن مناطق الخطر المحددة أعلاه (الفوالق والصدوع) معروفة ومدروسة ومراقبة ومرصودة رسمياً منذ عقود، ومع ذلك كان وما زال هناك الكثير من اللامبالاة تجاه تزايد الكثافة السكانية فيها، مع غض الطرف عن المخالفات وانتشار العشوائيات، مع كل المخاطر المترتبة على ذلك.. فإذا كانت الهزات والزلازل ظاهرة طبيعية لا يمكن التنبؤ بوقت حدوثها الدقيق، فإن السياسات المعمول بها والقائمين عليها والمستفيدين منها يتحملون ما يخصهم من مسؤوليات بما يتعلق بدرء المخاطر الناجمة عن الهزات والزلازل، ليس في حال حدوثها، بل واستباقاً عليها، ولا صكوك براءة تمنح بهذا المجال.. إنّ الأخطار قائمة، ولا أمان ولا سلامة ولا عدالة ولا.. في ظل الاستمرار بالسياسات الليبرالية، الطبقية والمجحفة والتمييزية نفسها، التي لا تُعير المواطن والوطن أي اهتمام، وعلى كافة المستويات».
ولعله من المفترض الآن، وبعد حدوث الكارثة، أن نتساءل عن المساهمين في زيادة سلبية نتائجها وآثارها، من الرسميين وغير الرسميين، وعن كيفية تحميلهم لمسؤولياتهم، وبالحد الأدنى عما يترتب عليهم من غرامات وتعويضات لمصلحة المتضررين، بدلاً من استمرار منح هؤلاء صكوك البراءة والغفران الرسمية؟!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1109