العيب ليس بعجز الموازنة.. بل بمصادر تمويلها وأوجه صرفها!
عاصي اسماعيل عاصي اسماعيل

العيب ليس بعجز الموازنة.. بل بمصادر تمويلها وأوجه صرفها!

لا جديد بمشروع موازنة العام الحالي عما سبقها من مشاريع موازنات الأعوام السابقة، وخاصة ما يتعلق بالتضخم والعجز، والأهم ما يتعلق بطرق ومصادر تمويل العجز، وأوجه إنفاق الموازنة، المرتبطة بطبيعة الاقتصاد والسياسات المالية المتبعة، وبجملة الظروف الاقتصادية السياسية في البلد!

فبعد إقرار الحكومة لمشروع الموازنة العامة للدولة لعام 2023 بتاريخ 25/10/2022 قال معاون وزير المالية لشؤون الإنفاق العام، عبر صحيفة الثورة بتاريخ 28/10/2022، إن: «موازنة عام 2023 لا تحقق المطلوب أو لنقل لا تراعي تقلبات الأسعار أو التضخم الذي وصل إلى أرقام قياسية، لكن هذا لا يعني أن وزارة المالية أو الحكومة بشكل عام تستطيع أن تضع موازنة عامة للدولة على أرقام تضخمية، فهذا سيجعل الموازنة تتضاعف بشكل أكبر».
وأضاف: «إن العجز بالموازنة ليس من الأمور المعيبة فكل دول العالم تعاني من العجز، لكن كيف سنؤمن هذا العجز؟ الأمر سيكون من خلال مكافحة التهرب الضريبي وفعالية الإدارة الضريبية والتركيز على الفوترة وأتمتة العمل الضريبي من الأمور التي ستحقق عدالة كاملة، واللجوء إلى سندات الخزينة ستغطي العجز».

لا جديد؟!

بحسب حديث معاون الوزير حول قول البعض إن موازنة العام القادم لا تختلف عن سابقاتها، أجاب: «من الطبيعي أن تكون مثل العام الماضي والحالي لكن الأولويات لا تتغير، مثلاً التربية أولويات ثابتة لدى الحكومة والصحة أيضاً والمياه ودعم المشتقات النفطية والدقيق التمويني».
فالأرقام المعلنة عن مشروع الموازنة للعام 2023 بمبلغ 16550 مليار ليرة سورية تقول إن اعتماداتها الأولية وزعت على 13550 ملياراً للإنفاق الجاري و3000 مليار للإنفاق الاستثماري.
وبحسب معاون وزير المالية تم «توجيه الإنفاق وليس ترشيده بما يحقق التوازن الاقتصادي، حيث أكدنا بموازنة 2023 على الإنفاق الذي يحرك عجلة الإنتاج وليس الإنفاق الإداري».
فهل 3000 مليار مخصصة للإنفاق الاستثماري ستحرك عجلة الإنتاج؟ وهل 13550 ملياراً مخصصة للإنفاق الجاري ليس تأكيداً على الانفاق الإداري، وهل هذا التوزيع يحقق التوازن الاقتصادي المطلوب؟ أو التنمية المنشودة، بحال توفرت النية لذلك؟
فالترجمة العملية من واقع الأرقام أعلاه تعني أن العجز مستمر ومتزايد، وكذلك التضخم الذي وصفه معاون الوزير أنه «وصل إلى أرقام قياسية»!

الإيرادات الغائبة!

ورد على صفحة الحكومة بعض الأرقام عن توزيع الاعتمادات، مع التركيز على أرقام الدعم الاجتماعي، وأرقام كتلة الرواتب والأجور والتعويضات، برغم ثباتها النسبي وعدم كفايتها، لكن الغائب عن الأرقام المعلنة هي حجم الإيرادات التقديرية في مشروع موازنة 2023، والتي على أساسها يمكن التوقف عند حجم العجز المتوقع بين النفقات العامة والإيرادات العامة، والتي يفترض أن تكون متوازنة.
فمصادر تمويل العجز بحسب حديث معاون الوزير أعلاه هي: (مكافحة التهرب الضريبي وفعالية الإدارة الضريبية- التركيز على الفوترة وأتمتة العمل الضريبي من الأمور التي ستحقق عدالة كاملة- اللجوء إلى سندات الخزينة).
مقابل ذلك تم إغفال الإعفاءات الضريبية الكبيرة المنصوص عليها في بعض القوانين، وخاصة قانون الاستثمار، والتي يفترض أن تكون محسوبة من ضمن الإيرادات، وحجم النهب والفساد الكبير المقتطع من كتلة الإنفاق العام.
مصادر تغطية العجز المغيبة!
بالإضافة إلى ما ذكره معاون الوزير أعلاه من مصادر، هناك مصادر أخرى أكثر أهمية، تم ويتم اللجوء إليها لتغطية العجز المستمر والمتزايد في الموازنات السنوية، وهي أكثر كارثية بنتائجها وتداعياتها الاقتصادية الاجتماعية، ومنها على سبيل المثال:
تخفيض الإنفاق العام (الجاري والاستثماري).
رفع أسعار المشتقات النفطية وحوامل الطاقة.
تخفيض الدعم على السلع الأساسية (خبز- سكر- رز- مشتقات نفطية..).
خفض الأجور أو تجميدها.
تقنين التوظيف الحكومي العام أو وقفه.
إنهاء الدعم الاقتصادي لشركات القطاع الحكومي المنتج تحت مسميات مختلفة (تصفية- بيع- استثمار تشاركي..).
ضغط الانفاق على التعليم والصحة و..
ويضاف إلى ذلك اللجوء إلى الإصدار النقدي أحياناً، وهو ما شهدناه خلال السنين الماضية.
وهذه المصادر، والتي تعتبر جزءاً من وصفات صندوق النقد الدولي سيئة الصيت، هي ما يمكن وصفها بالمعيبة، بل بالكارثية، وهي كذلك أحد الأسباب المباشرة للتضخم، خاصة أنها أوصلتنا مع جملة السياسات الطبقية والظالمة المتبعة إلى أن أكثر من 90% من السوريين باتوا تحت الحد الأدنى للفقر ومعوزين غذائياً، أي باتوا جائعين!

عجز السياسة النقدية!

الاعتراف بأن موازنة 2023 «لا تحقق المطلوب أو لنقل لا تراعي تقلبات الأسعار أو التضخم» بحسب حديث معاون الوزير، يمكن أن نضيف إليه حديث مدير الأبحاث الاقتصادية في المصرف المركزي لصحيفة تشرين بتاريخ 28/10/2022 أيضاً، حيث قال: «إن معدل التضخم العام عام 2020 بلغ 114%، وتراجع عام 2021 إلى 101%.. وبعد الإجراءات الحكومية لضبط الائتمان والسيولة نرى أن معدل التضخم العام بلغ 59%، ومعدل التضخم السنوي حتى أيلول لهذا العام هو 55% وهو أقل من السنة الفائتة حيث بلغ 74%».
بالمقابل فقد قال مدير الأبحاث الاقتصادية: «إن الارتفاع المستمر بالأسعار والسلع التي تهم الشريحة الواسعة من المواطنين والتي لها تأثير على القوة الشرائية وعلى النشاط الاقتصادي بشكل عام، ليكون المحدد الأساس للتضخم هو مستوى أسعار السلع والخدمات الذي تعجز السياسة النقدية عن ضبطه».
وبغض النظر عن مدى فاعلية وإيجابية السياسات النقدية المتبعة، والملاحظات الكثيرة التي يمكن إيرادها بشأنها، فاعتراف مدير الأبحاث الاقتصادية بحجم التضخم، وبعجز السياسات النقدية عن ضبطه، يعيدنا إلى جملة السياسات الظالمة المتبعة، بمفرزاتها ونتائجها الكارثية على الإنتاج والمستوى المعيشي والنشاط الاقتصادي عموماً.
الإمكانية برغم صعوباتها

متاحة.. ولكن!

ربما من الممكن وضع مشاريع موازنات تدفع باتجاه تحقيق التنمية المطلوبة مع مراعاة العدالة الاجتماعية، بالتعاون مع القطاع الخاص الوطني المنتج طبعاً، شريطة الاعتماد على الذات وتحرير الاقتصاد من التبعية والسيطرة، أو من النماذج المستوردة، من خلال إعادة توجيه الإنتاج والتصنيع، العام والخاص، (الزراعي بشقيه النباتي والحيواني، والصناعي والحرفي المنتج)، وخاصة الموجه من أجل إشباع الحاجات الأساسية للسكان، بالتوازي مع توجيه الإنفاق العام (الجاري والاستثماري) بما يخدم غايات التنمية، وبما يخفف من الأعباء المعيشية عن الشرائح الاجتماعية الأكثر تضرراً، أي الغالبية المفقرة، أي استعادة دور الدولة الاقتصادي الاجتماعي، والذي تم التضحية به تباعاً خلال العقود الماضية، وما زالت السياسات المطبقة تدفع نحو المزيد منه.
وهذا يعني إنهاء النموذج الليبرالي الاقتصادي (المشوه والمتوحش) المعمول به، أي تغيير جملة السياسات المتبعة منذ عقود، والتي أوصلتنا إلى ما نحن فيه من كوارث على كافة المستويات حتى الآن!

معلومات إضافية

العدد رقم:
1094