بيع المقتنيات ومعركة الأمعاء الخاوية المستمرة
عبير حداد عبير حداد

بيع المقتنيات ومعركة الأمعاء الخاوية المستمرة

تحت سقف البؤس السوري، وبين سطور فقره المدقع، يتابع المواطن محاولاته المتكررة للخروج بعائلته من تحت أنقاض الجوع المستشري، جاهداً الانتصار في نهاية يومه على معركة الأمعاء الخاوية.

فقد نشطت في الآونة الأخيرة أسواق إلكترونية عبر صفحات فيسبوك، يتم من خلالها العرض والطلب على كل ما هو قابل للبيع، مع التنويه أنها أغراض منزلية مستعملة حصراً.
هذه الأسواق أوجدتها الحاجة الملحّة والاضطرارية، بعدما وصل السوريون إلى ما تحت خط الفقر والعوز الشديد، ليسد البائعون فيها جزءاً من تكاليف نفقاتهم اليومية، أو جزءاً صغيراً من ديونهم، عبر بيع ما يمكن بيعه من مقتنياتهم المنزلية، مقابل استفادة الشارين (لتلبية حاجة اضطرارية ما من المقتنيات المعروضة) من الفارق السعري مع السوق، فالبائع والشاري في هذه السوق غالباً من المفقرين والمعوزين.

الحاجة والاختراع

حققت ويلات الحرب، جنباً إلى جنب مع السياسات الحكومية الظالمة بحق الغالبية المفقرة من المواطنين، ولمصلحة القلة الثرية المسيطرة والمتنفذة، نتائج كارثية أكبر على المستوى الاقتصادي- الاجتماعي، والتي تعتبر بطبيعة الحال انعكاساً لتراجع القطاعات الإنتاجية كافة دون استثناء، مع سبق وإصرار حكومي عليها، وما تبع ذلك من تدهور متسارع للأوضاع المعيشية، وتزايد معدلات البطالة عاماً بعد الآخر، وأدى في نهاية المطاف إلى اتساع الهوة بين الأجور والحد الأدنى لمستوى المعيشة أضعافاً مضاعفة.
فمع استمرار تردي الأوضاع المعيشية واتساع الفجوة بين الأجور وارتفاع تكاليف المعيشة المتسارع، بات من الصعب على المواطن تأمين الحاجات الأساسية بالحد الأدنى، وخاصة الغذائية.
فرغم ما يتحمله من أعباء فرضت عليه، تستمر الحكومة بسياسة رفع الدعم المتتالي، لتتسع دائرة الأعباء وتفيض عن قدرته على تحمل تكاليفها الباهظة، رغم ضبط وضغط نفقاته الصارم، ليبقى هناك جزء كبير يعجز عن سد تكاليفه، وتبقى الحاجة لدى هؤلاء أم الاختراع، ليلجؤوا إلى أسواق بديلة من اختراعهم، وبعيداً عن هيمنة حيتان النهب والفساد في الأسواق، يتبادلون من خلالها المنفعة عبر عمليات البيع والشراء لكل ما هو مستعمل وقابل لإعادة الاستهلاك!

تفاصيل البؤس الحية

المتتبع لحركة السوق الإلكترونية الناشئة، والخاصة بالمفقرين، يفاجأ بما هو معروض فيها، ليس لندرته، بل للأسباب التي دفعت البائعين فيها للتخلي عنها، كأن يعرض «حراماً» مستعملاً أو مدفأة مستعملة للبيع في هذه الأجواء الباردة مثلاً، أو أن يعرض حذاء وبنطالاً مستعملين، أو فرشة وطراريح للمنامة والجلوس...
تحدثنا «هالة» عن تجربتها المحدودة عبر هذه الأسواق البديلة، بعدما تقطّعت بأسرتها سبل العيش.
فهالة ذات الـ 30 عاماً تتحمل مع زوجها الموظف شظف العيش، وأعباء تأمين جزء من تكاليف معيشتهم اليومية، عبر تخليها عن جزء من مقتنيات منزلهم من خلال بيعها لمن هو بحاجة لها.
حيث بدأت تجربتها بعد عرض مدفأة كهربائية، وبعض أواني المطبخ، من مقتنياتها الخاصة، عبر إحدى صفحات فيسبوك لبيع الأغراض المستعملة، وذلك لتأمين بضع علب حليب لطفلها ذي الـ5 أشهر، ولتجد من خلال ذلك لاحقاً متنفساً اضطرارياً تسد من خلاله بضع حاجات ضرورية إضافية، يعجز مرتب زوجها الزهيد عن تأمينها، مقابل الاستغناء عن بعض مقتنياتها الإضافية، التي سبق أن عانت، وقتّرت على نفسها وأسرتها، من أجل الحصول عليها، وأي بؤس!
تكمل هالة عن تجربتها، التي توسعت بعدما أنشأت صفحة فيسبوك خاصة بالأغراض المستعملة، تعرض من خلالها كل ما يخطر على البال من أغراض، ابتداءً من الملابس والأحذية المستعملة، إلى الأدوات الكهربائية والسجاد، بالإضافة إلى أدوات المطبخ، وغيرها الكثير مما يخطر أو لا يخطر في الذهن، بما في ذلك الأثاث المنزلي المستعمل أيضاً، كالأسرّة والخزن، وحتى النمليات... إلخ.
فصفحتها التي أنشأتها لهذه الغاية لم تعد مقتصرة على عرض ما يمكن أن تستغني عنه اضطراراً من مقتنيات منزلها فقط، بل أصبحت تسوّق عبرها لجاراتها، ممن ضاقت بهم سبل العيش كحالها، كنوع من المساعدة والتكاتف معهم، وبلا عمولات طبعاً.
فمع كل أسف، أصبحت الغالبية المفقرة تجد متنفساً لها عبر هذه الأسواق الإلكترونية الجديدة، التي تزداد انتشاراً واتساعاً، ليس بسبب عدم قدرتها على تحمل تكاليف ارتفاع أسعار السلع الجديدة فقط، بل بسبب تزايد الضغوط الحياتية والمعيشية، وبسبب سياسات التجويع والإفقار المستمرة، التي فرضت على هؤلاء المفقرين أن يتخلوا عن مقتنياتهم لتأمين ما يسد رمقهم.

سياسات الإفقار المستمرة

قصة التعاسة العارمة مازالت مستمرة وتتمدد، مع كم الكوارث التي أحاطت بالغالبية المفقرة، حتى أصبحت كلمة كارثة لا تفِي بالغرض، خصوصاً أن الحكومة عقدت عزمها على الاستمرار بسياسات تخفيض الدعم حتى إنهائه، رغم أن تقرير منظمة الأغذية العالمية، الذي صدر خلال شهر تشرين الثاني من العام المنصرم، يخبرنا أن 60% من السوريين يعانون من انعدام الأمن الغذائي، و90% منهم يعيشون بفقر مدقع.
فقد تقطعت سبل الحياة بالناس فعلاً، حتى بات همّ المواطن الأول، تأمين الطعام والشراب لأفراد أسرته، عسى ينهي يومه مرتاح البال وقرير العين بالنسبة لهذا الجانب فقط، ومع ذلك دون جدوى غالباً.
فالمواطن بات محروماً من أبسط مقومات الحياة الخدمية مع أسرته، ابتداءً من الماء والكهرباء، وصولاً إلى الغاز وسبل التدفئة بأنواعها أيضاً، ليحصد النتائج والعواقب الوخيمة لتردي الواقع الخدمي والمعيشي على حساب صحته المتراجعة أيضاً، بالإضافة إلى تفشي العديد من الظواهر السلبية على المستوى الاجتماعي، التي لم تكن ظاهرة على السطح من قبل بهذا الشكل الفاقع والفج، وليصل بالنتيجة إلى درجة بيع ما تبقى من مقتنياته تباعاً، وغالباً من أجل وجبة طعام لأفراد أسرته، الذين باتوا يخوضون معاً معركة الأمعاء الخاوية والمستمرة بتوحش منقطع النظير!
ونتساءل بالنتيجة: أليس ذلك وحده كافياً لاعتباره ضرورة للتغيير الجذري المنشود؟!

معلومات إضافية

العدد رقم:
1052
آخر تعديل على الجمعة, 21 كانون2/يناير 2022 21:56