الاعتماد على الذات والاكتفاء الذاتي كلام بكلام..
استفاقت الحكومة مؤخراً إلى أهمية الصناعة والزراعة والإنتاج، ربطاً مع إعادة تدوير شعار الاعتماد على الذات عبر وسائل الإعلام الرسمي وشبه الرسمي، والمرور خجلاً على أهمية دور قطاع الدولة الذي تم افتقاده حالياً، وذلك على ضوء الأزمة الاقتصادية المعيشية الضاغطة، وتداعياتها السلبية على حياة المواطنين وعلى الاقتصاد الوطني بشكل عام، بالتزامن مع ما تتعرض له الليرة، ومع الحديث عن العقوبات الجديدة بموجب قانون قيصر سيء الصيت.
فقد بدأت الحكومة فجأة بالتحدث مثلاً عن أهمية الصناعات الغذائية والتحويلية وعن الشوندر السكري وعن قطاع الدواجن وغيره من القطاعات، بعد مسيرة طويلة من الضغط على هذه القطاعات وغيرها، وصولاً لعجز بعضها وتوقف بعضها الآخر، وخاصة في قطاع الدولة، علماً أن الحديث الحكومي لم يخرج عن كونه كلاماً إعلامياً فقط لا غير حتى الآن!
الصناعة والإنتاج جزء من ضحايا السياسات
لقد حوّلت السياسات الليبرالية خلال العقود الماضية- بعنوانها الترويجي القائم على تحرير السوق والانفتاح، وبجوهرها النهبوي الفاسد- اقتصادنا تباعاً إلى اقتصاد يعتمد بشكل عام على الرّيع وعلى عمليات الاستيراد والتصدير، وعلى حساب الصناعة والزراعة والإنتاج، وطبعاً كان ذلك لمصلحة شريحة حيتان المال والفساد، والأدلة على ذلك أصبحت أكثر من أن تُعد.
وقد أتت سنوات الحرب والأزمة لتزيد من الانعكاسات السلبية لهذه السياسات على كافة المستويات، وبنفس الوقت كانت فرصة أمام حيتان المال والفساد وتجار الحرب والأزمة لتزيد من حصة نهبهم على حساب الغالبية المفقرة، وعلى حساب المصلحة الوطنية والوطن.
بهذا الصدد، وعلى مستوى قطاع الدولة مثلاً، يسعنا أن نتساءل عن مآل الصناعات (النسيجية والكيميائية والغذائية والتحويلية والكابلات والسكر والزيوت والجرارات والإطارات والإلكترونيات والمعدنية و..) وكيف جرى إضعافها وتقويضها رويداً رويداً خلال العقود الماضية نهباً وفساداً، بالتوازي وبما ينسجم مع السياسات الليبرالية وشعاراتها، اعتباراً من شعارات الانفتاح وقاطرات النمو، مروراً بشعارات السوق الاجتماعي، وليس انتهاءً بشعار التشاركية؟!
وكذلك فقد كان انعكاس تلك السياسات كارثي على قطاع الإنتاج الزراعي بشقيه النباتي والحيواني، وعلى القطاع الصناعي والإنتاجي الخاص.
قطاع الدولة النسيجي مثال
في قطاع النسيج وحده كانت هناك بحدود 25 شركة عامة تابعة للمؤسسة العامة للصناعات النسيجة قبل سنوات الحرب والأزمة، التي أتت نتائجها، بالتوازي مع نتائج السياسات الليبرالية، مزيداً من الضعف لبعضها، وتوقف بعضها الآخر.
فبعض هذه الشركات ما زال يعمل، برغم كل ما مر عليها خلال السنوات الماضية مع استمرار معاناتها وصعوباتها طبعاً، وبعضها متوقف بسبب ما حل بها من دمار جزئي بانتظار المؤازرة الجدية والدعم لإعادة تأهيلها وإقلاعها، وبعضها دُمر كلياً بانتظار إعادة الاعتبار لدورها ولا سيما العريق منها عبر إعادة إعمارها وتأهيلها، سواء بأمكنتها القديمة أو بأمكنة مخصصة جديدة، في حال توفر النية الجدية بذلك طبعاً.
وعند الحديث عن هذا القطاع الكبير والهام لا بد من الإشارة إلى الكثير من القطاعات (الإنتاجية والصناعية والتجارية والخدمية) المرتبطة به، وتعداد العاملين الكبير فيه وبقطاعاته المرتبطة، أي، الدور الاقتصادي الاجتماعي الهام لهذا القطاع العريق تاريخياً، بالإضافة لدوره على مستوى الاقتصاد الوطني.
فهل يحق لنا أن نتساءل عن مآل هذا القطاع الآن، وعن مستقبله؟
وأين شعار الاعتماد على الذات بما يخص هذا القطاع الهام والحيوي؟
ولعل الأهم، هل يحق لنا المطالبة بمحاسبة كل من ساهم بإضعافه واستنزافه، ترهلاً ونهباً وفساداً، طيلة العقود الماضية، كما غيره من قطاعات الدولة الأخرى؟
الحديث عن إحلال المستوردات ومثال سيرونيكس
يجري الحديث عن الاكتفاء الذاتي من بوابة الحاجات الغذائية غالباً، رغم أهميتها، دون الحديث عن بقية الحاجات والضرورات التي من الممكن أن نكتفي منها ذاتياً، مع إمكانية الاستفادة من القيمة المضافة عليها، وصولاً لتصدير الفائض منها، بحال كانت هناك إرادة حقيقية بذلك، وليست صورية وإعلامية فقط.
فالحديث عن بدائل المستوردات، وبرامج إحلال المستوردات مثلاً، ما زال كلاماً بكلام، على الرغم من أهمية القطاعات التي شملها وضرورتها، والميزات المعلن عنها للقطاع الخاص من أجل تحفيزه للاستثمار فيها، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الحديث الحكومي عن بدائل المستوردات لم يتطرق لدور قطاع الدولة فيها، لا على مستوى تحفيز وحسن استثمار ما هو قائم منها، ولا على مستوى ضخ استثمارات لإحداث بعضها بموجبه، بحيث تتم الاستفادة من الميزات الممنوحة لصالح قطاع الدولة أسوة بالقطاع الاستثماري الخاص!
بل أكثر من ذلك، ما زالت السياسات تفعل فعلها على مستوى إضعاف وتصفية ما هو قائم من صناعة وإنتاج، ولعل مستقبل شركة سيرونيكس مثال على ذلك، حيث أعلنت مؤخراً عن مزاد من أجل تأجير جزء من عقاراتها في منطقة القابون على ضوء طرح شعار «دمشق خالية من الصناعة والزراعة»، والذي دفع ضريبته صناعيو منطقة القابون مع صناعاتهم العديدة القائمة في هذه المنطقة الصناعية أيضاً!
الوضع على ما هو عليه دون تغيير
الواقع الاقتصادي المعيشي الذي وصلنا إليه لم يكن إلا جانباً من جوانب الانعكاسات السلبية لتبني تلك السياسات، وذرائع الحرب والأزمة والحصار والعقوبات ليست إلا إضافة على هامشها، استفادت منها شريحة أصحاب الأرباح، التي راكمت ثرواتها خلال العقود الماضية على حساب المواطن والوطن والمصلحة الوطنية، وما زالت!
فالسياسات الليبرالية المعتمدة، التي نتج عنها تحجيم وإضعاف دور الدولة، وجرى من خلالها ضرب قطاعها الإنتاجي والصناعي والخدمي، مع إضعاف القطاع الإنتاجي والصناعي الخاص أيضاً، وأفرزت كل الموبقات على المستوى الاقتصادي الاجتماعي، ما زالت على حالها دون أي تغيير، بل دون وقفة انتقادية رسمية لها!
لا أوهام
لا شك بأن السياسات الليبرالية المطبقة لن تفسح المجال أمام إعادة الاعتبار للإنتاج والصناعة والزراعة على حساب تخفيض حصة أرباح القائمين عليها والمستفيدين منها نهباً وفساداً واستغلالاً، بل ما زالت تفعل فعلها لزيادة هذه الحصة، بغض النظر عن كل ما يقال عكس ذلك، وما يُروج ويُسوّق له من أحاديث وما يُعقد من اجتماعات.
كذلك لا وهم بأن الخروج من عنق الزجاجة عبر تطبيق شعارات الاعتماد على الذات والاكتفاء الذاتي مثلاً لا يمكن أن يرى النور إلا من خلال تغيير السياسات المعمول بها تغييراً جذرياً وعميقاً بما يحقق فعلاً مصلحة الإنتاج والصناعة ومصلحة المواطن والمصلحة الوطنية عموماً.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 971