سياسة نقدية أم تجويعية؟
عاصي اسماعيل عاصي اسماعيل

سياسة نقدية أم تجويعية؟

توقفت غالبية التحويلات المالية الآتية من الخارج على إثر تعليمات وإجراءات المصرف المركزي الأخيرة، والمواطنون الذين لا يعرفون بالسياسات النقدية للمصرف المركزي، وربما لا تعنيهم، لكنهم لمسوا آثارها السلبية عليهم نتيجة وقف وصول الأموال من ذويهم بالخارج، بدأوا يتساءلون عن جوهر هذه السياسات، هل هي نقدية فعلاً أم تجويعية؟

لقد تتالت تعليمات وإجراءات مصرف سورية المركزي مؤخراً، وكان لها الكثير من التداعيات السلبية على المواطنين ومعيشتهم، وخاصة الغالبية المفقرة التي تعتمد بمعيشتها على ما يصلها من أموال من أقربائها في الخارج.

صحيح لا تقسم ومقسوم لا تاكل

أصدر المصرف المركزي بياناً بتاريخ 1/6/2020 يتضمن الطلب من المواطنين «بعدم استلام أية مبالغ مالية من أشخاص مجهولي الهوية أو في الأماكن العامة، وضرورة التواصل مع ذويهم أو أقاربهم في الخارج لضمان إرسال هذه الحوالات عن طريق شركات الصرافة المرخصة أصولاً، وبالتالي استلامها في سورية عن طريق هذه الشركات، أو عن طريق شركات الحوالات المالية الداخلية المتعاقدة معها أصولاً، وبموجب إشعار يتضمن مبلغ الحوالة وبلد الإرسال ومعلومات عن الشخص المرسل، علماً أن الأفراد الذين يتم ضبطهم أو التوصل لمعلومات تفيد باستلامهم للحوالات عن طريق أشخاص مجهولين سيتم ملاحقتهم قضائياً بموجب قوانين تمويل الإرهاب في حال تورط هؤلاء الأشخاص بهذا الجرم، أو ملاحقتهم بجرم الصرافة غير المرخصة والتعامل بغير الليرة السورية بموجب القوانين النافذة في حال اقتصر الجرم المرتكب من قبل هؤلاء الأشخاص على ذلك».
لن نخوض بالجانب الاقتصادي فالاختصاصيون أقدر على ذلك بلا شك، لكن يبدو أن شكل الطلب أعلاه يصب باتجاه قوننة التعامل مع التحويلات المالية الآتية من الخارج وتقييدها بالشركات المرخصة، وهو ربما يكون طلباً طبيعياً في ظل الظروف الطبيعية، وبحال استقرار سعر الصرف وعدم وجود فجوة كبيرة بهذا السعر، لكن بالجوهر وكنتيجة عملية له، لقد توقفت التحويلات المالية الآتية من الخارج، وذلك لسبب بسيط، من المؤكد أن المركزي لم يكن غافلاً عنه، وهو أن في كل دولار هناك فارق سعري كبير في السعر الرسمي، سيكون على حساب المواطنين، وبالتالي على حساب معيشتهم.
الكارثة في مضمون البيان أعلاه ليس تجاهل الفارق السعري للدولار، وليس ما قد يصل إليه المواطنون من تردٍ معيشي إضافي بسببه وكنتيجة طبيعية له، فالأسوأ هو استسهال التجريم الذي قد يطال هؤلاء المواطنين الذين تأتيهم التحويلات من الخارج، سواء كان بجرم تمويل الإرهاب أو بجرم الصرافة غير المرخصة، وهذه وتلك تعتبر من المصائب بالنسبة للمواطنين الباحثين عن لقمة عيشتهم بقليل من الكرامة على حساب ذويهم وأقربائهم ومعارفهم في الخارج.
والنتيجة، أن غالبية التحويلات المالية توقفت خشية هذا التجريم، مع ما يعنيه ذلك من زيادة مستويات العوز والجوع لدى الغالبية التي تعتمد بمعيشتها على هذه التحويلات.
فالمركزي يعلم علم اليقين أنه وفقاً لمضمون البيان أعلاه لن يستقطب الحوالات المالية من الخارج وفقاً للسعر الرسمي المعتمد من قبله، كما يعلم علم اليقين أن هذه التحويلات ستنخفض لأدنى مستوياتها خشية التجريم، وبالتالي، إن الانعكاس السلبي سيحصد نتيجته سوريو الداخل على حساب معيشتهم، فلا هو استفاد ولا الخزينة ولا المواطن!

المفقرين هم الحلقة الأضعف

إضافة للبيان أعلاه، فقد صدرت عن المركزي قرارات بإغلاق بعض شركات تحويل الأموال الداخلية، ما أدى إلى وقف استلام الكثير من حوالات المواطنين الداخلية أيضاً، إضافة لصدور بلاغ بما يخص نقل الأموال بصحبة كل مسافر بين المحافظات، وبما لا يتجاوز مبلغ 5 مليون ليرة.
من الواضح أن مضمون ما صدر عن المركزي مؤخراً يتحمل المواطنون المفقرون مسؤوليته ونتائجه السلبية، وليس كبار الأثرياء والفاسدين في البلد، فهؤلاء لديهم ما يكفي من الحصانة للتداول بالقطع الأجنبي داخلاً وخارجاً، وبقوة القوانين التي استثنتهم ومنحتهم الكثير من الامتيازات الإضافية، وبحال الحديث عن المضاربة في سعر الصرف أو بالليرة السورية فهؤلاء من لهم الباع الطويل بهذه المضاربات، وبغيرها من المضاربات في الأسواق، ناهيك عن كل مصادر النهب الأخرى التي يتم تقاسمها فيما بينهم، على حساب المفقرين والبلد.
كذلك من الواضح، أن كل سوء السياسات المطبقة مع نتائجها السلبية طيلة السنوات والعقود الماضية لم يحملها ويدفع ضريبتها إلا المفقرون، باعتبارهم الحلقة الأضعف بهذه السياسات المجحفة بحقهم على طول الخط!.

جريمة مركبة بلا متهمين رسمياً

هذا النمط من التعامل الرسمي مع المواطنين المفقرين لا يمكن تبويبه ضمن إطار التهرب من المسؤوليات وتجييرها، بما في ذلك على حساب هؤلاء المفقرين دائماً وأبداً، ولا من بوابة الارتجال والعشوائية واللامبالاة والاستهتار بحقوق هؤلاء، ولا ضمن إطار محاباة شريحة كبار الأثرياء والفاسدين في البلد تماشياً مع جوهر السياسات الليبرالية المجحفة المعتمدة، بل أسوأ من كل ذلك، وخاصة في ظل الظروف الضاغطة اقتصادياً ومعيشياً.
بل يمكن القول: إن ما جرى ويجري بحق المفقرين في البلد هو الجريمة المركبة التي يدفع ضريبتها هؤلاء على حساب معيشتهم وصحتهم وحياتهم ومستقبلهم وحريتهم وكرامتهم، وكل هذه الجرائم غير مرئية رسمياً، وبالتالي لا متهم يمكن إدانته عليها!

إما الجوع أو السجن!

بالعودة لبيان المركزي، فإن توقّف التحويلات المالية من الخارج، بسبب مضمون البيان أعلاه، تزامن مع ارتفاعات الأسعار الجنونية في الأسواق مؤخراً المرتبطة أساساً بسعر الدولار، والتي تزداد في كل ساعة، على علم الحكومة والمركزي وكل أصحاب القرار والسلطة في البلد، وقد أدى ذلك بالمحصلة إلى مزيد من الفاقة والعوز لدى الغالبية الساحقة من المواطنين، ولا حلول متاحة لدى هؤلاء في ظل هذا النمط من التعامل الرسمي المجحف معهم ومع معيشتهم ومستقبلهم، فالخيارات المتاحة التي فرضها المركزي أصبحت محدودة بثلاثة احتمالات: إما الجوع، أو الاضطرار لخسارة جزء كبير من قيمة التحويلات المالية بسعر الدولار الرسمي، وهم بأمس الحاجة لليرة زيادة، أو المغامرة بالتجريم والسجن!.
فهل عجز المركزي فعلاً عن وضع خيار إضافي مثلاً يستطيع من خلاله استقطاب هذه الحوالات المالية عبر سعر تشجيعي منصف للمواطنين، ليصار بعده إعادة ضبط السعر رويداً رويداً، بدلاً من خسارته هذا القطع، وخسارة المواطنين لهذه التحويلات بعيداً عن منطق الترهيب والتجريم التطفيشي؟
ومن المسؤول عن فرض مثل هذه الخيارات المرّة والمجحفة على المواطنين؟ ولمصلحة من يجري ذلك بهذه الظروف العصيبة، والتي تزداد جوراً على المفقرين فقط لا غير؟ وهل يدرك المعنيون ما قد يترتب على ذلك من مآلات قد لا تحمد عقابها؟!

معلومات إضافية

العدد رقم:
969
آخر تعديل على الإثنين, 08 حزيران/يونيو 2020 12:21