التلاعب بقوت الناس مغامرة لا تُحمد عُقباها
يوم بعد آخر يتم الدفع برغيف الخبز نحو المزيد من السوء، إنتاجاً وتوزيعاً وبيعاً، ويوم بعد آخر يتم تحميل المواطنين أوزار سوء العمل والترهل والفساد بهذا الملف، برغم كل ما تمّ «إبداعه» من آليات بذريعة تصويب كل ما سبق خلال السنوات الماضية وحتى الآن، وبرغم كل ما يُقال عن «الدعم» المقدم للمواطن عبر هذا الرغيف.
فما يجري من الناحية العملية هو الضغط على المواطن ودفعه نحو التخلي عن الرغيف التمويني غصباً وقهراً وبالتدريج، وبعدة طرق وأساليب، وخاصة بما يتعلق بمواصفات وجودة هذا الرغيف، وصولاً للجوء إلى البدائل الخاصة (السياحي- النخالة- الصمون..) اضطراراً على حساب معيشته.
تعمية مقصودة
لم يعد بالإمكان اعتبار ما يتم اتخاذه من خطوات وما يصدر من قرارات وتوجيهات بشأن رغيف الخبز تخبطاً أو ارتجالاً، بل إصراراً على دفع الأمور نحو المزيد من التخلي عن الحقوق، وهذه المرة على حساب لقمة العيش الأساسية للمواطن المتمثلة برغيفه «المدعوم».
فبدلاً من تشديد الرقابة على المواصفات والجودة، وعلى آليات البيع عبر كوات المخابز والأفران، والحدّ من الازدحام عليها، ومنع التجارة برغيف الخبز أمامها من قبل البعض، بالتواطؤ والحماية، جرى إعلان الاستسلام، مع توسيع قاعدة البيع للمستهلكين عبر زيادة عدد الموزعين الخاصين، ونقل الازدحام من أمام المخابز إلى أماكن تواجد هؤلاء، مع المزيد من تردي المواصفات والجودة للرغيف، التي دخل على خطها فترة طويلة إضافية هي الهامش الزمني المرتبط بالحلقة الجديدة المضافة للاستغلال، وكل ذلك تحت يافطة «الذكاء»، الذي نال ما ناله من حقوق حتى الآن.
أما الأسوأ بهذا الصدد فهو تركيز الأضواء على الحلقة الأخيرة من سلسلة الفساد المستشري بعمق الرغيف التمويني، والمتمثلة بحلقة البيع للمستهلكين، والحديث عن الهدر بهذا الجانب، والتعمية عن كامل الحلقات الأخرى في سلسلة الفساد القائمة والمستمرة.
سلسلة هدر ونهب وفساد
بهذا الصدد، يبدو من الضروري التذكير بهذه السلسلة الطويلة من النهب والفساد والاستغلال التي تعمل بعمق ملف الخبز التمويني، والتي تبدأ من شراء القمح، سواء من الفلاحين أو عن طريق الاستيراد، وتمر عبر الحبوب، لتصل إلى الصوامع، ومنها إلى المطاحن (عامة وخاصة)، ثم إلى المخابز والأفران (عامة وخاصة) وبالنهاية إلى المستهلك، وقد أضيفت حلقة جديدة إلى هذه السلسة أيضاً تتمثل بالموزعين والمعتمدين الخاصين أيضاً، بعد الاستعانة بالذكاء الخاص بالبطاقة ذائعة الصيت!، طبعاً يُضاف إلى هذه السلسلة قوافل النقل بالسيارات (الخاصة والعامة) بين حلقاتها، مع عدم تغييب أن كل من هذه الحلقات في هذه السلسلة الطويلة فيها نسب هدر مقوننة ومتعارف عليها، ومتلاعب بها أيضاً، وقد زادت نسب الهدر بالرغيف كمنتج نهائي أيضاً بسبب استمرار تردي مواصفاته وجودته، مع الحلقة المستفيدة من هذا السوء.
وبالتالي، فإن تركيز الأضواء على حلقة الاستهلاك الأخيرة فقط لتحميلها أكثر مما تحمل تحت اسم مكافحة السرقة والفساد والحد من الهدر، دوناً عن كامل السلسلة، فيه الكثير من التجني على المواطنين وحقوقهم، وفيها الكثير من التعمية المقصودة عن كل ما يجري من نهب وفساد وهدر في بقية السلسلة.
تعليمات حكومية
بحسب ما ورد على صفحة الحكومة: «طلب مجلس الوزراء من وزارة التجارة الداخلية تشكيل لجنة فنية للبحث في أسباب تدني جودة الخبز مؤخراً ووضع الضوابط لالتزام الأفران بمعايير الجودة المعتمدة، وكلف المجلس وزارات النفط والتجارة الداخلية والإدارة المحلية وضع الآلية التنفيذية التي تضمن وصول الخبز بنوعية جيدة إلى المواطنين». وقد كان ذلك بتاريخ 5/4/2020.
وبتاريخ 8/4/2020، «أقر اجتماع «خاص» برئاسة المهندس عماد خميس رئيس مجلس الوزراء حزمة من القرارات لتحسين صناعة الرغيف وفق أفضل المعايير والجودة وتأمين مادة الخبز بيسر وسهولة».
كما تم إقرار: «الموافقة على وضع كود خاص بكل كيس طحين ودمغه بلون معين يضمن إعادته بعد الاستعمال وفرض غرامات مالية كبيرة لمنع أي فاقد في مادة الطحين مع ضمان حصول المحافظات على مخصصاتها الكاملة..».
إجراءات وزارية
بتاريخ 8/4/2020، وبحسب ما ورد عبر صحيفة الوطن: «كشفت وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك عن اعتماد بيع الخبز عبر البطاقة الذكية.. وأوضح معاون وزير التموين أن التطبيق سيكون فور انتهاء الترتيبات التي تضمن بيع الخبز دون أي خلل، وسيكون التوزيع عبر المعتمدين والمخابز بعد تزويدهم بقارئ البطاقة.. ونوّه بأن الأسرة التي عدد أفرادها حتى 3 أشخاص ستحصل على ربطة خبز واحدة يومياً، والأسرة ذات الأفراد من 4 إلى 7 أفراد تحصل على ربطتي خبز يومياً، فيما تحصل الأسرة التي يتجاوز عدد أفرادها 7 على 3 ربطات خبز يومياً».
ومما ورد على صفحة وزارة التموين بتاريخ 11/4/2020، عن محاور خطة وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك في أتمتة إنتاج وتوزيع الخبز التمويني: - أتمتة عملية توزيع الخبز من الأفران على المعتمدين والمواطنين عبر بطاقة الخدمات الالكترونية لضمان تسليم كافة كميات الخبز المنتج عبر قنوات المعتمدين بالإضافة للسادة المواطنين حصراً- مقارنة الطحين المسلم مع الخبز المنتج لضمان عدم تهريب الدقيق التمويني والمشتقات النفطية وغيرها من المواد الداخلة في الإنتاج- ضبط الوزن عبر التحقق من وزن كل ربطة- ضبط ومراقبة جودة الخبز المنتج- في المرحلة الثانية: أتمتة عملية التوزيع من المعتمدين على السادة المواطنين عبر بطاقة الخدمات الإلكترونية لمنع الاتجار بالخبز كعلف.
النتائج المستهدفة من تطبيق الخطة: - إلغاء مظاهر الازدحام في الحصول على الخبز التمويني- ضبط الدقيق التمويني ومنع التهريب- ضمان حق المستهلك بما يتعلق بوزن الخبز المسلم عبر الربطات- رفع جودة الخبز المنتج- الحد من الاتجار بالخبز التمويني كعلف- الحفاظ على حقّ المواطن وحقّ الدولة في عملية إنتاج الخبز التمويني.
النتائج بمسؤولية من؟
النتائج الملموسة حتى الآن من خلال كل ما سبق على المستوى النظري تشير بالواقع العملي إلى أن رغيف الخبز أصبح أكثر سوءاً ناحية المواصفات والجودة، وبالتالي فقد زادت نسبة الهدر فيه، سواء ما يتبقى بعد استهلاك المواطنين، والأهم: هي الكميات المتبقية دون بيع بسبب هذا التردي بالمواصفات وعزوف بعض المواطنين عن استهلاكه، والتي تذهب بالنتيجة كعلف مع حلقات التجارة فيه والمستفيدين منه، طبعاً ناهيك عن استمرار الازدحام واستمرار التلاعب بالوزن أيضاً.
أما الحديث عن ضبط الدقيق التمويني وفقاً للآلية أعلاه، والتي تتمثل بوضع كود خاص بكل كيس طحين ودمغه وما إلى ذلك من إجراءات فهي أكثر ما تكون بالضحك على اللحى، وهي كما أسلفنا للتعمية عن بقية سلسلة النهب والفساد بملف الخبز التمويني.
أما الفاقع فهو وضع سقوف للاستهلاك بالنسبة للمواطنين، وكأن هؤلاء لديهم حرية الترف باستهلاك كميات إضافية من الخبز، في الوقت الذي أصبح رغيف الخبز الغذاء الوحيد المتبقي بالنسبة للغالبية من المفقرين الذين تجاوزوا حدّ الجوع بدرجات إلى الأدنى.
والنتيجة، أن ما يجري بحقّ رغيف الخبز التمويني، وحقوق المواطنين به، عبارة عن مغامرة لا تحمد عقباها، بظل واقع الفقر والجوع والتردي المعيشي المستمر، وفي ظل التغاضي والتعمية عن كل أوجه وأشكال السرقة والفساد بهذا الملف الحيوي!.
والسؤال من سيتحمل جريرة كل ذلك في النهاية؟.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 961