السوريون ليسوا طالبي صدقات بل مطالبين بالحقوق
تزايدت في الآونة الأخيرة دعوات التكافل الاجتماعي العائمة والخلّبية، وهذه المرة بسبب جائحة الكورونا ونتائجها السلبية على المفقرين بشكل خاص.
فقد نشطت المبادرات التي حملت الكثير من التسميات، بغاية التشجيع على التكاتف والتضامن المجتمعي مع هؤلاء، بالتوازي مع تداول بعض عبارات «العتب» على «رجال الأعمال» و»التجار» بسبب «تقصيرهم» في هذا المجال.
أسئلة لا بد منها
قبل الخوض بالدعوات الحالية، ربما تتبادر للذهن مجموعة من الأسئلة، مثل:
هل يحتاج التضامن المجتمعي إلى دعوات وحملات ومبادرات؟.
هل ظهر خلال الجائحة الحالية أن التكاتف الاجتماعي كان غائباً؟.
هل يكفي التكافل الاجتماعي، بشكله وإمكاناته المتاحة، لمواجهة أزماتنا؟.
هل يُغني التكافل الاجتماعي، بصيغه وعناوينه المطروحة، عن دور الدولة في الرعاية الاقتصادية والاجتماعية؟.
ما هو دور «رجال الأعمال» و»التجار» ومسؤولياتهم الفعلية بأزماتنا، وما هي غايات عبارات «العتب» المساقة بهذا الصدد؟.
الضرورة والاستغلال
لا أحد ينكر النتائج السلبية بسبب جائحة الكورونا الحالية بشكل عام، والتي حصدت نتيجتها المفقرين والمهمشين بشكل خاص، ليس بسبب توقف الأعمال استناداً للتعليمات والاجراءات المتخذة رسمياً، وفقدان هؤلاء لمصادر دخولهم الهزيلة فقط، بل بسبب ما تراكم لديهم من عوز وجوع ومرض طيلة السنوات الماضية، نتيجة السياسات الطبقية المتبعة منذ عقود، والتي زادت آثارها السلبية خلال سنوات الحرب والأزمة وبسببها، والتي أدت إلى ضعف بنيتهم، وهشاشة مناعتهم في مواجهة الأمراض بشكل عام، والجائحة الأخيرة بشكل خاص، وبالتالي لا يمكن لأحد أن ينكر أهمية وضرورة التكافل الاجتماعي وتعزيزه بهذه الفترة، للحد ما أمكن من التداعيات السلبية على معيشة هؤلاء وصحتهم، والتخفيف منها.
لكن الجديد في بعض الدعوات الأخيرة أنها موجهة للمواطنين أنفسهم، من أجل التكاتف والتعاضد مع بعضهم البعض، في تجاهل تام لواقع الغالبية المفقرة التي لا تستطيع أن تتكفل بنفسها وبأفراد أسرها، نتيجة ما آل إليه واقعها المعيشي من تدهور لدرجة الجوع والعوز.
مع العلم أن مثل هذه المبادرات والدعوات ليست جديدة، فقد ظهرت الكثير من المبادرات خلال سنوات الحرب والأزمة، والتي نشطت على هامش معاناة المواطنين المتضررين بسبب نتائجها وأزماتها، وبعمق المساعدات المقدمة باسم هؤلاء المتضررين بالنتيجة، وقد طغت عوامل الفساد على الكثير منها، مع الكثير من المظاهر السلبية استغلالاً لحاجات الناس، بما في ذلك أساليب الإذلال مع الأسف.
فهل ستكون الدعوات الحالية استثناءً عمّا سبقها؟!.
الواقع يقول: إن بعض الدعوات والمبادرات الحالية، حالها كحال سابقاتها على المستوى العملي، مع اختلاف مسمياتها وعناوينها، ما هي إلا فرصة تكسّب واستغلال ونهب، أي خلّبية بالنتيجة والمآل، ولا مانع طبعاً من بعض الشهرة والترويج الشخصي من خلفها، مع ما تفرزه من أشكال قديمة متجددة من الإذلال، والشواهد على ذلك حتى الآن ليست قليلة، بما في ذلك ما تم توثيقه وتداوله بالصوت والصورة.
وقائع ملموسة
ما يجب تأكيده هنا أن التكاتف المجتمعي كان حاضراً طيلة سنوات الحرب والأزمة، بل وقبلها بعقود أيضاً، وخاصة بين شريحة المفقرين والمهمشين بعضهم مع بعض، ومع ذويهم وأقاربهم ومعارفهم وأصدقائهم وجيرانهم، وامتد هذا التكاتف بين السوريين داخلاً وخارجاً أيضاً.
فالوقائع تقول أن هؤلاء لم يؤازروا بعضهم البعض في الملمات، وما أكثرها، خلال هذه السنين فقط، بل كانت مؤازرتهم لبعضهم البعض تشمل كافة أشكال المساعدات، النقدية والعينية، في مواجهة نماذج الظلم والقهر والاستغلال المعمم، وأشكال المعاناة المختلفة التي تعرضوا لها، وما زالوا، وخاصة على مستوى نتائج الحرب وتداعيات الأزمة الكثيرة، اعتباراً من التشرد والنزوح، وليس انتهاءً بالفقر والجوع.
مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذه الأشكال من التكاتف والمؤازرة والمساعدة كانت تتم بدون طلب غالباً، وبكل صمت بعيداً عن أشكال الشهرة والترويج والمزاودة، والأهم بدون إذلال.
ولا أحد يستطيع إنكار أهمية هذه الأشكال من التكاتف الاجتماعي، فلولا وجودها لكان واقع ووضع السوريين أسوأ بكثير مما هو حالهم اليوم، برغم استمرار مآسيهم ومعاناتهم وكارثتهم.
وربما بهذا الصدد يكفي أن نقارن بين مستويات الأجور مع ما يقابلها من أسعار للسلع الأساسية والضرورية، لندرك الهوة السحيقة التي وصل إليها غالبية السوريين على المستوى المعيشي، والتي يتم ردم جزء منها عبر أشكال التكاتف الاجتماعي القائم، وعلى الرغم من ذلك فقد وصلت نسبة المعوزين دون خط الفقر لأكثر من 80% من السوريين.
بالمقابل فقد كان لافتاً غياب دور الدولة على هذا المستوى، بل على العكس فقد كان للكثير من القرارات الحكومية دور إضافي في زيادة معاناة الغالبية المفقرة، ناهيك عن الانعكاسات السلبية لمجمل السياسات المتبعة على هؤلاء دون سواهم، وكذلك كان واضحاً دور كبار التجار والفاسدين والسماسرة وأمراء الحرب وتجار الأزمة، على مستوى الاستغلال والنهب، وربما لا داعي لإعادة السرديات بهذا الصدد، وهي كثيرة لدرجة عدم التمكن من أن تستوعبها أو تعبر عنها عدة عبارات أو أسطر ومقالات.
تأكيدات ملموسة
ما سبق يؤكد التالي:
التكاتف الاجتماعي لم يغب ولا للحظة عن حياة السوريين بغالبيتهم المفقرة والمهمشة، وهؤلاء ليسوا بحاجة لمن يذكرهم بأهمية وضرورة هذا التكاتف، كما ليسوا بحاجة لمبادرات تشجعهم للقيام بهذا الدور، فقد كانوا سباقين به.
الأزمات التي تواجهها وتعاني منها الغالبية المفقرة أكبر وأعمق من أن يتم حلها عبر أشكال التكاتف المجتمعي على أهميتها، مهما بلغت من عمق، ومهما تنوعت أشكالها، خاصة وأن عوامل إفراز هذه الأزمات ما زالت مستمرة، بل ما زالت تضيف المزيد منها كل يوم، والمتمثلة أساساً بالسياسات الليبرالية التمييزية والطبقية.
الدولة كانت غائبة على هذا المستوى من المهام والواجبات، برغم ما نص عليه الدستور من حقوق وما هو موجود في النصوص القانونية النافذة بشأنها، فالحكومة لم تقم بدورها وواجباتها على مستوى حلحلة الأزمات اليومية التي يعاني منها المواطنون، فكيف على مستوى تقديم الحلول النهائية لها؟، بل على العكس من ذلك، كانت وما زالت تزيد الطين بلة من خلال إبداع المزيد من الأزمات مع توسيعها وتعميقها، والشواهد على ذلك أصبحت أكثر من أن تعد!.
لنأتي أخيراً إلى دور كبار التجار والفاسدين وأشباههم من المستفيدين من جملة السياسات المتبعة، ومن كافة الأزمات والمشاكل القائمة، بل ومع افتعال المزيد منها أيضاً، من أجل فرض المزيد من أساليب النهب والاستغلال والابتزاز، مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذه الشريحة النافذة ليس من مصلحتها حل أية مشكلة أو أزمة، ودورها معرقل ومشوه لأي حل يمكن أن يقدم بهذا المجال.
تضليل ووقاحة
ختاماً، لا بد من التأكيد على أن حل أية مشكلة بشكل نهائي لا يمكن أن يتم إلا عبر العودة لمسبباتها الحقيقية لمعالجتها من جذورها، أي مجمل السياسات المتبعة مع نتائجها وإفرازاتها والمستفيدين منها، فكل ما عدا ذلك لن يكون إلا مساعي تضليل جديدة عبر ضخ المزيد من الجرعات المسكنة والمخدرة ليس إلا!
فالظاهر والجلي في بعض الدعوات والمبادرات تحت عناوين التكاتف المجتمعي العائمة والخلبية الأخيرة، أن الغاية منها بالمحصلة هي تجيير المعاناة على المفقرين أنفسهم، بل وتحميلهم مسؤولياتها ونتائجها، بمقابل نفي التهمة عن التقصير الحكومي، بالإضافة طبعاً للتعمية عن استمرار كل أشكال النهب والفساد.
ولعل عبارات «العتب» الخجولة الموجهة لكبار الناهبين والفاسدين، تحت مسميات «التجار»- «الأثرياء»- «رجال الأعمال»، التي يتم تداولها بهذا السياق، ليست إلا للتورية والتعمية عن دور هؤلاء القذر، وليس «المقصر»، تضليلاً ووقاحةً.
فالسوريين ليسوا طالبي صدقات ومساعدات، بل مطالبين بحقوقهم المشروعة والمهدورة، وسينالونها عاجلاً وليس آجلاً.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 960