شبح «الكورونا».. ما حدا ع راسو خيمة
في هذه الأيام، وفي الأيام القليلة القادمة، وعلى ضوء الخشية المشروعة من تفشي وباء «الكورونا»، الذي لا يقف عند حدود، ولا يميز بين الشرائح والطبقات الاجتماعية، ربَّما يدرك البعض أخيراً لماذا من الضروري أن يكون هناك جهاز دولة قوي ومتماسك، قادر على تحمُّل الأعباء والمسؤوليات الاقتصادية والاجتماعية والخدمية والصحية و..؟ ويتم التأكد من أن حلِّ الكثير من المشكلات والأزمات هو سياسي ووطني بامتياز وليس اقتصادي أو اجتماعي أو..، وليس ترقيعاً أو تسويفاً أو تجييراً..
فالسياسات الليبرالية المطبقة والمعمول بها، خلال العقود والسنين الماضية، لم تؤدِّ إلى تجيير وتسخير دور الدولة لمصلحة البعض على حساب مصالح الغالبية من السوريين، كما على حساب المصلحة الوطنية وصولاً إلى تفجر الأزمة فقط، بل إلى إضعاف، وتراجع دور الدولة عن القيام بمهامها وواجباتها العامة المفترضة، والتي تزايدت نتائجها السلبية خلال سني الحرب والأزمة، ولا أحد يستطيع أن يقدر نتائجها الكارثية مع شبح «الكورونا» الحالي.
أن تأتي متأخراً..
أقرَّت الحكومة أخيراً، وذلك بحسب صفحتها بتاريخ 13/3/2020: «اتخاذ سلسلة من الإجراءات الاحترازية والوقائية الإضافية لتجنُّب حدوث أية إصابات بفيروس كورونا على الأراضي السورية».
وقد تضمنت هذه الإجراءات:
«تعليق الدوام في الجامعات والمدارس والمعاهد، وتعقيم وحدات السكن الجامعي- تخفيض حجم العاملين في مؤسسات القطاع العام الإداري إلى حدود 40% وفق نظام المناوبات، وتخفيض عدد ساعات العمل وإلغاء نظام البصمة اليدوية- تكليف الوزراء تنظيم العمل في المؤسسات الخدمية الاقتصادية بما يضمن حسن أداء الخدمة وتكليف وزارة العدل باتخاذ الإجراءات اللازمة لعمل المحاكم- إيقاف كافة النشاطات العلمية والاجتماعية والثقافية والرياضية وإلغاء كافة مظاهر التجمعات البشرية الخاصة، والتشدُّد في تطبيق منع تقديم النراجيل في المقاهي والمطاعم وإغلاق صالات المناسبات العامّة، واعتماد خطة تعقيم لوسائل النقل الجماعي- شراء الأقنعة والألبسة الواقية للطواقم الطبية المسؤولة عن متابعة هذا الملف، والتوسع في تجهيز مراكز الحجر الصحي بمعدل مركزين في كل محافظة وتزويدهما بالتجهيزات المادية والبشرية اللازمة، إضافة إلى تجهيز طلاب السنة الأخيرة والدراسات العليا في كافة اختصاصات الطب البشري للانخراط في المشافي حينما يتم الإعلان عن الحاجة إليهم لتعزيز الكوادر الطبية فيها، وتهيئة المشافي في الجامعات الخاصة، ووضعها تحت تصرف وزارة الصحة عند اللزوم- التشديد على ضرورة رفع جاهزية فرق الترصد والتقصي الوبائي التي تعمل على مدار الساعة في المعابر البرية والبحرية والجوية بهدف تحري المرض لدى القادمين عبر هذه المعابر، ونشر كافة المعلومات المستجدة حول مرض كورونا وتطوراته في سورية بدقة وشفافية والإعلان عن حالة مثبتة فور تسجيلها».
تقرير OCHA ومنظمة الصحة العالمية
تجدر الإشارة إلى أن الإجراءات الحكومية الاحترازية أتت بعد صدور تقرير مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية في سورية OCHA بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية بتاريخ 11/3/2020، والذي تضمن ما يلي:
عدم وجود إصابات.
تقييم المخاطر العالمية لمنظمة الصحة العالمية: مرتفع جداً.
مجالات القلق- دمشق/ ريف دمشق، المناطق المكتظة بالسكان وتلك التي تعاني من الأعمال العدائية.
السكان المثيرون للقلق- جميع الفئات معرضة للفيروس ولكن كبار السن والأشخاص الذين لديهم تاريخ سفر إلى البلدان/ المناطق أو الأقاليم التي أبلغت عن انتقال COVID-19 محلياً معرضون للخطر بشكل خاص.
بناءً على الوضع الوبائي الحالي في منطقة شرق المتوسط، مع الانتشار السريع للحالات في الدول المجاورة، بما في ذلك الدول المجاورة لسورية، فإن الخطر على سورية يعتبر مرتفعاً جداً.
تشمل عوامل الخطر الإضافية ما يلي:
عدد كبير من الأشخاص الضعفاء، بمن فيهم النازحون واللاجئون.
الحركة السكانية واسعة النطاق بما في ذلك السياحة الدينية.
نظام الصحة العامة الهش ذي القدرة المحدودة على الاستجابة- تعتبر القدرة على التأهب والاستجابة المستوى 2 من 5 (بناءً على التقرير السنوي للوائح الصحية الدولية لعام 2019)، حيث 5 هي أعلى قدرة، مما يشير إلى قدرة محدودة تتطلب تقنية والدعم التشغيلي.
مع الإشارة إلى أن منظمة الصحة العالمية سبق وأن وصَّفت «الكورونا» كجائحة على المستوى العالمي، مع ما يترتب على هذا التوصيف من إجراءات ومتابعات واجبة على المستوى الدولي والمحلي.
إجراءات هامة وغير كافية
لا شكَّ أن الإجراءات الاحترازية المعلنة رسمياً تعتبر هامة وضرورية، وإن أتت متأخرة، لكنّ ذلك لا يعني أنها كافية، في ظل توصيف منظمة الصحة العالمية بحسب تقريرها أعلاه حول سورية بأن: «نظام الصحة العامة هش ذي قدرة محدودة على الاستجابة»، وبأن: «الخطر على سورية يعتبر مرتفعاً جداً»، بالإضافة إلى مفردات وتفصيلات التقرير الأخرى.
فواقع الحال يقول إن الدولة بمؤسساتها تعاني من الكثير من الترهل والصعوبات والمعيقات، والتي كان للسياسات الليبرالية دور كبير في تعزيزها وعدم حلها.
فهناك الكثير من الإجراءات الاحترازية والوقائية الاضافية واجبة المعالجة السريعة من قبل بعض الوزارات والمؤسسات، كل بما يخص المشاكل والأزمات المرتبطة بها، وهي تفقأ الأعين، مثل: الازدحام أمام الأفران أو طوابير الانتظار أمام السورية للتجارة، والازدحام على المواصلات، وغيرها من أماكن الازدحام الكثيرة في البلد، والتي يجب العمل الجدي والسريع على حلها، وعدم الاكتفاء بتوجيه النصائح بشأنها، فالحاجة والضرورة هي التي تفرض نفسها على المواطنين أولاً وآخراً، والحديث ربما يطول عن أمثلة مشابهة.
المناعة الذاتية والغذاء
أما العامل الأكثر ضرورة بوجود شبح «الكورونا» فهو عامل المناعة الذاتية، الذي يعتبر النظام الغذائي أُسَّه، ليتكامل مع نظام الرعاية الصحية المطلوب.
فإذا كان المعرضون لانعدام الأمن الغذائي والواقعون ضمنه يشكلون نسبة تفوق 80% من السوريين، فكيف لهؤلاء المعوزين والجائعين أن يواجهوا العوامل الممرضة من خلال مناعتهم الذاتية المستهلكة والمنهكة؟.
وإذا ما أضفنا عامل «الهشاشة في النظام الصحي» لدينا وفقاً لتقديرات منظمة الصحة العالمية، والملموس سلفاً من قبل المواطنين، فهذا يعني أنَّ توصيف الخطر على أنه «مرتفع جداً» يعتبر مؤشراً لا يمكن تجاوزه، أو اعتبار الإجراءات المعلن عنها كافية لمواجهة «الكورونا» أو غيرها من الجوائح الممرضة.
وعلى هذا الأساس ربما يبدو الحديث عن السياسات الاقتصادية الطبقية والتمييزية المجحفة بحق الغالبية من السوريين له وقع آخر، فالغالبية المفقرة لم تصل إلى درجات العوز الغذائي إلا بسبب هذه السياسات، وقس على ذلك مما سبق الحديث عنه، وبالتفصيل، مراراً وتكراراً حيالها، الأمر الذي يؤكد مرة أخرى أن حلَّ المشكلات والأزمات التي يعيشها ويعاني منها السوريون هو سياسي ذو طابع وطني عام، وليس إجرائياً مجتزأً، أو ترقيعياً وهامشياً.
استحقاقات «الكورونا» وكسر العزل الطبقي
أمام استحقاقات مواجهة «الكورونا» تبدو الحاجة لإعادة النظر بدور جهاز الدولة والسياسات المعتمدة على كافة المستويات ضرورة ملحة، إضافة إلى الضرورات الوطنية الأخرى التي فرضت نفسها خلال سنوات الحرب والأزمة، وبسببها.
فعشرة أعوام من الحرب والأزمة، وقبلها عقود من السياسات الليبرالية المجحفة، لم تكن للبعض، كبار الأثرياء والتجار والفاسدين وأمراء الحرب وتجار الأزمة والمستغلين، إلَّا مجالاً واسعاً للتكسب والمزيد من الثراء على حساب المعاناة التي عاشها ويعيشها الغالبية الساحقة من السوريين، المسحوقين والمهمَّشين، تشرداً ونزوحاً ولجوءاً وفقراً وجوعاً ومرضاً و..، كما على حساب البلد والمصلحة الوطنية، طالما أن هؤلاء البعض كانوا قادرين على عزل وتحييد أنفسهم عن آثار وتداعيات هذه الحرب والأزمة، محمِّلين نتائجها الكارثية للغالبية من المفقرين، ساعين بكل جهدهم إلى إطالة أمدها وتأخير حلها، وتعطيل كافة الجهود المبذولة بهذا الإطار، وذلك بالتحالف والتعاون مع كل من له مصلحة بذلك من القوى، المحلية والإقليمية والدولية.
بمطلق الأحول ربَّما يصح القول هنا: «ما حدا ع راسو خيمة»، والسؤال الذي يفرض نفسه: هل يكون «الكورونا» فرصة وعاملاً ضغط إضافي لتحقيق التغيير الجذري والعميق المطلوب على كافة المستويات بما يحقق المصلحة الوطنية، وضمناً صون مصلحة وحقوق جميع السوريين، أم إن شبح الكارثة «الكورونية» سيكون عاملاً مساعداً على «قلب عاليها واطيها»، باعتباره جائحة لا تعترف بعوامل العزل الطبقي المكرَّس عبر السياسات الليبرالية التي أصبحت أكثر توحشاً؟.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 957