«زبدية الفول المغشوشة»
نورا أبو الناصر نورا أبو الناصر

«زبدية الفول المغشوشة»

في أحد آخر المحلات التي تقدم طبقاً «أصيلاً» من الفول في حارات دمشق القديمة، يقطع صديقي «المغترب» طعامه، ويُسرّ لي:

«الفقر في الوطن غربة»، تلك الجملة المكثفة المقلقة التي أورثنا إياها «محمد الماغوط» لتكوّن فهمنا عن قساوة الظرف المعيشي الذي يخنقنا في شبابنا، تعود مقولته اليوم لتضغط علي أكثر وأسأل نفسي: «كم غربة نعيش في وطننا المسلوب؟»، واليوم، أعود بعد سنوات من الاغتراب خارج بلدي، أعود إلى منزل والدي في دمشق القديمة، أحمل المال الذي حلمنا به يحمينا من الغربة في وطننا، اعود حالماً بالملجأ الوحيد الذي أبتغيه من كل الوحشة التي نعيشها نحن «المغتربين» في الخارج، أعود لأجد نفسي في الغربة المطلقة..!
حارتي، ومنشأ طفولتي هي أزقة دمشق القديمة المهيبة، الحارات التي كانت ملجأ الجمال والشعراء والحالمين، هي اليوم مرتع للقذارة ولا شيء قد يخفف من قساوة هذا الشعور، فـ«المطاعم الجديدة» التي تخترق ليلنا في كل ليلة بضجيجها القميء، وأشكال روادها المفزعة التي تنبئ بقرب وقوع كارثة إطلاق نار أو اشتباك بين حثالة من المجرمين الذي يركبون سيارات حديثة تصدر المزيد والمزيد من الضجيج والنتانة، وتُروّج للدعارة كأنها إرث اجتماعي وطني لا يحق لك حتى استهجانها، لأنها مصدر رزق بعض أبناء حارتك!، أجل صحيح، أبناء حارتي، الذين تركتهم أطفالاً تتقن المزاح واللعب والمشاكسة، هم اليوم أطفال مشوهون بأسلحة ووشوم ولحى، ويتقنون فتح بازارات بيع السيارت والعقارات، سماسرة وبكل فخر، سماسرة في عملهم، وسماسرة في بيوتهم ومع أبنائهم وزوجاتهم، المهم دوماً أن تكون الرابح..
وفي الشوارع التي كانت ملجأ الشاربين والساقين في حانات تحوي من الطيبة أضعاف ما فيها من كحول، باتت اليوم مكنةً لفرم الأحلام والبشر والمال، ببطء وعزم ووقاحة.
فتجربة السير من باب توما إلى حارة القشلة مروراً بشارع الحجر وطالع الفضة، وصولاً إلى حارة اليهود والعمارة حتى باب شرقي، هي تجربة عصيبة مع توتر مستمر بسبب السيارات وصياحها على المارة، وصياح المارة على أبنائهم غير القادرين على إيجاد بقايا الأرصفة المشغولة دوماً ودوماً بسيارات مركونة وكأنها ولدت هناك على الرصيف ولم تزل، وعواء الكلاب المدللة على شخوص ممتعضة تملك المزيد من الكلاب المدللة، ضجيج ضجيج، وحرارة مزعجة من السيارات والمحال والبشر، ثم ليستقبلك قيء يستعمر ما كنا نسميه «حارات العشاق» في محيط حديقة القشلة- حديقة شهداء السريان اليوم- حيث العيون الجافلة وشبان مسلوبو الارادة والأمل، يملؤون الحديقة وحوافها في محاولة بائسة ليكونوا قرب حياة الثراء والمال المسعور الذي يجوب الشارع هناك، مُتسيّداً مُسيطراً، يُعزز نموذج الاستهلاك في كل زاوية من الأعداد المتفاقمة للحانات والبارات التي تمثل السرقة بأوقح صورها.
رفيق طفولتي هو اليوم «متعهد حفلات»، أو «مدير علاقات عامة PR manager» كما يحلو له تسمية مهنته، كل التسميات للتغطية على الواقع الحقيقي الوحيد، هو سمسار أيضاً، لتبييض أموال منهوبة في مجالات جديدة للنهب، وأنا المغترب، لا أجد مفراً من التعبير له عن اشمئزازي من السرقة الموصوفة التي يرتكبها بحقي، في تقديم خدمة ناقصة الجودة ومبتذلة الشكل، بعبارات الاستقبال والاحتفاء التي ترتسم على وجوه تحاول فقط اقتناص المزيد من جيبك ومن عمرك، وردّه المتذاكي السمج والمهين دائماً: «الشاطر بشطارته»..!
اللعنة تستشري أكثر، والغربة عن كل تفاصيل المكان تقسو أكثر، السجائر مغشوشة، الطعام مكرر ومقزز، أصحاب المحلات يستشرسون على زبائن تستشرس في معركة العرض والطلب، الكحول محبط ومغشوش، وشاربو الكحول أخيلة بشر، وشارع «القيمرية» الذي كان مهرباً لجولة على الأقدام بسلام وهدوء في جماليات دمشق الفريدة برقتها، بات ازدحاماً خانقاً وغير منطقي ولا يتناسب مع الكتلة المالية التي ينتجها، ازدحام قائم على منافسة المحلات على فتات الدخل الذي يحمله المتعبون الباحثون عن أسباب غبطة أو فرحة في الشوارع، حيث اعتاد الناس أن يكونوا سعداء، لكنهم اليوم «محاصرون في الداخل»، محاصرون بلصوص القوت وتجار الوهم، محاصرون في الكذبة الكبيرة، إن كل شيء على ما يرام.
»المحاصرون في الداخل»، أولئك الذين اعتادوا في عائلاتهم على التغني بتقاليد يوم العطلة في ارتياد مطاعم تشبههم، يغني فيها مطربهم الذي يعرفونه كأنه فرد من العائلة، يأكلون بلا خوف من التسمم، في الطعام أو في الفاتورة، ويقضون الوقت مطمئنين أن أبناءهم في محيط طبيعي، لطيف، وآمن. هم ما زالوا في ذات الأماكن، محاصرون بصورة الحجارة وتسويقها السياحي الرخيص، محاصرون بآثار مسلوبة روحها، ودخان السيارات وسيجار الخونة يلوث الحجارة ويغطي حياتهم بالخوف، خوف من ضياع أطفالهم في دوامة تهرس كل شي في طريقها، وخوف من الغد المجهول، وخوف من احتمال عراك مع أي من تلك الوحوش المتسيدة في الشارع.
فكل قذائف الهاون التي أمطرت المنطقة لم تمنع أهلها من الخروج يومياً للعيش كبشر يحتاجون التنفس، لكن أصوات ضباع الخمارات وكلابها المدججة بالعنف كافية لدب الرهبة في قلب أعتى العقول وأشجعها، لأن المقولة المرددة باسترخاء وسهولة في أوساط جحافل العهر إياه: «الزلمي حقّو رصاصة»...!
صديق الطفولة الآخر، أراه اليوم يجري بشكل مسعور ومتهافت بين السيارات المترفة، ليقدم خدمة «الفاليه»، المصطلح المتداول لهذه الخدمة، والخدمة تتجاوز ركن السيارات بكثير، والعلاقات المريبة المتسربة بين تفاصيلها هي التروية اللازمة لهكذا جنون سائد بين حجارة التاريخ الدمشقي، وما السلاح والمخدرات إلا تجارة طبيعية في المستنقعات، ومع كل صوت رهيف يختال في شوارع باب شرقي، يدخل إلى الحانة وجه جديد أستهجنه، ينضم إلى مجموعات تشبه بعضها، في مزاحهم المتعالي، ولباسهم المصمم لإظهار اللامبالاة والخفة، وأعمارهم التي لا تتناسب مع كميات الكحول التي يسرفون بها، والشتائم التي يكيلوها للـ«التخلف» والـ«الجهل» في مجتمعنا، وإذ أسأل، يأتيني الجواب واضحاً: «أطفال المنظمات»، حاملو الدولار المبجل، العاملون في منظمات تمولها شركات، تجني أرباحها من حروب تصنعها ضد أحلامنا وحقوقنا، لتنهب كرامتنا وتدمر حياتنا، وتأتي لاحقاً بمنظمات ترمي لنا المساعدات، وتربي بمالنا المنهوب موظفين منسلخين عن بيئاتهم، ناقمين بلا مبرر، يكرسون عقلية الاستهلاك والتسوّل اللامتناهي في هذا الهباء.
ينهي صديقي «المغترب» المناجاة في شكواه الذاتية هذه، ويشرب آخر رشفة من «زبدية الفول»، تدفع الطعمة الحنونة ابتسامة فرحة على شفتيه، يقول لي بمكر: «هذا الأصيل الوحيد الباقي هنا، يساوي كل ذاك الهراء في الخارج». يودعني كدمشقي متمرس في الحنين، يستقل سيارة الأجرة وينطلق عبر خيالات ضحكات العائلات والأطفال والسوزكيات على جانب طريق المطار، ليعود إلى «غربته» الطبيعية في سقمها وبؤسها وعزلتها، الصريحة بظلمها ووجعها.

معلومات إضافية

العدد رقم:
936