المعهد العالي «للفنوساد» المسرحي
حاله كحال غالبية مؤسسات الدولة، التعليمية وغيرها، يُعاني المعهد العالي للفنون المسرحية من ثقافة الفساد السائدة في البلاد، ولربما بسبب ظروفه الخاصة والضيقة تتمظهر هذه الثقافة عبر عدّة أشكال واضحة، وبشكلٍ مقصود وممنهج ربما.
فبدءاً من ظروف الطلاب السيّئة ذوي الحدود المتواضعة في التعليم، مع عدم التقليل من أهمية الموهبة طبعاً، مروراً بما يتخلله من شائعات، لا تُنفى ولا تُعمم، حول تغلغل ظاهرة «الحشيش» مع ما يرافقها، وليس انتهاءً بإداراته وعماداته المتعاقبة لسنواتٍ خلت دون حلٍّ لأيّة مشكلة، أكانت إدارية أم تعليمية أم طلابية واجتماعية في الداخل، ليصبح تقاذف اللوم والاتهامات على إداراتٍ وعمداء سابقين أمراً طبيعياً لإخلاء مسؤولية القائمين في اللحظة المعنية عن هذه الحال.
لكن آخر ما حُرر حول سلسلة تقاذف الاتهامات تلك، أنه أصبح المذنبون هم الطلاب أنفسهم! وأكثر من ذلك، هم أولئك الذين لم يدخلوا المعهد بعد، على لسان سكرتير العميد نفسه، بعد أن سبقه بذلك موظفو الوزارة.
حشيش و«عربدة»
ظهر هذا «الاتهام» قُبيل امتحان قبول الطلاب المُتقدمين لهذا العام، وأُعيد تكراره بيوم صدور النتائج.
بدأت القصة بأن أعلن المعهد عن بدء تسلّمه لطلبات التقديم مُحدداً سقفاً لسنّ القبول يقف عند مواليد 1997، بالمقارنة مع قبوله في العام السابق لمن هم من مواليد عام 1996، دون أيّ تفسير أو إيضاح، حيث كان ممكناً -على فرض وجود ضرورة لهذا الفعل- أن تصدر إدارة المعهد تصريحاً أو بلاغاً بذلك قبل حين، يُعلمون بذلك ممن هم راغبون بالدخول إلى المعهد أن لا فرصةَ لهم، حتى لا يبدأوا باتباع الدورات التدريبية المكلفة، الخاصة والمخصصة لامتحان القبول، على الأقل، والتي تعلم بوجودها جيداً إدارة المعهد نفسه، فضلاً عن خيبة الأمل بعد كل الجهد المبذول من قبل هؤلاء الطلاب. لكن وعلى أيّة حال، لم يقبل المتقدمون من مواليد 1996 بهذا الأمر، وعددهم 38 طالباً متقدماً، ليبدأوا بممارسة الضغوط على وزارة التعليم العالي لمنحهم استثناءً في هذا العام، عبر تعاقب زياراتهم إلى الوزارة مجتمعين طلباً لهذا الأمر، ليفاجأ الطلاب بحجة أحد الموظفين في الوزارة، أنّ المعهد لا يريدهم لأن «الكبار هم من يعلمون الصغار على الحشيش والعربدة» على حدّ تعبيره. وبعد عدد من الزيارات والطلبات أصدرت الوزارة استثناءً لمواليد 1996 في يوم الأحد 15 أيلول، قبل يومين فقط من موعد امتحان القبول الذي جرى في يوم الثلاثاء 17 من الشهر نفسه.
حبكة دراما
مُجدداً، تعود الوزارة والمعهد بـ«تعشيم» هؤلاء الطلاب عبر الاستثناء، وإن كان صادراً قبل يومين، ليتبين أنّ الاستثناء وفعله مُجرد مسرحية بذات نفسها. حيث أوضح هؤلاء الطلاب أنه قد تخلل عملية الامتحان سلوكيات سُخرية واستهزاء من قبل اللجنة المشرفة على بعضهم بشكلٍ بيّن، فضلاً عن غياب مندوبٍ الوزارة في فحص مواليد 1996، علماً أنه تواجد في أثناء فحص مواليد السنين الأُخرى، بإشارةٍ واضحة إلى عدم رغبة المعهد بتاتاً- رغم الاستثناء الصادر من الوزارة- عن قبولهم، وهو ما حدث عندما أُعلنت النتيجة في يوم 18 أيلول، موضحةً رسوب الطلاب الـ 38 هؤلاء جميعهم. ليسبب ذلك مع كُل الاحتقان السابق لهؤلاء الطلاب زيادة بلّة في الطين، أدت إلى حدوث بضعة مُلاسنات بينهم وبين إدارة المعهد، ليكرر سكرتير العميد حديث الوزارة نفسها حول اتهام «الكبار بتعليم الصغار» على مادة الحشيش وغيره، كخطوة استباقية واحترازية بمضمون تكهني مستقبلي أدى إلى حرمان بعض الموهوبين من فرصتهم بدخول المعهد بالنتيجة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن البعض من هؤلاء حالهم كما غيرهم من المستجدين، سبق وأن تقدموا ولم يتم قبولهم لضعف مهاراتهم التي تعبوا عليها وثابروا على تحسينها، وليس لعدم امتلاكهم الموهبة، وهو وضع طبيعي درج عليه المعهد منذ إحداثه، خاصة وأن فلتر الورشات ما زال يفعل فعله على هذا المستوى أيضاً، كمعيار نهائي للاستمرار في المعهد من عدمه.
المسؤول الأول هو الإدارة القائمة
في الحقيقة، ليس مستغرباً البتة كُل هذه السلوكيات بأحداثها وتفاصيلها، حيث المعهد نفسه ليس إلا جزءاً من جملة مؤسسات الدولة وأجهزتها التي تحمل «ثقافة الفساد» هذه في إداراتها، ونقول «ثقافة الفساد» لا الفساد بعينه بمعنى السرقة والنهب، بل مجمل مرض البيروقراطية والمحسوبية واللامبالاة ورمي وتقاذف المسؤوليات وغيره، إلا أنه وبذات الوقت لا يشكل هذا الأمر أيّ تبرير لإدارة المعهد، وإنما بداعي تفسير الحالة وفهمها لا أكثر، حيث إن المسؤول الأوّل في نهاية المطاف عن ظروف المعهد بمجملها تبقى هي إدارته القائمة بأيّ وقتٍ كانت، وتحديداً في الحاضر، ولن يكون مستغرباً أيضاً لو ظهر مستقبلاً تورّط بعض أفراد ضمن هذي الإدارات المتغيرة بأجواء «الحشيش» تلك نفسها، على الأقل من خلال غض الطرف عنها، مع عدم إغلاق باب ترويجها، ليتبيّن فعلاً من هم هؤلاء «الكبار» الذين «يُفسدون» الصغار، خاصة وأن هذه الظاهرة السلبية وغيرها ليست وافداً جديداً على المعهد، وهي ليست المرة الأولى التي يتم تسليط الضوء عليها أو الحديث عنها، بشكل مباشر أو غير مباشر.
قطعة صغيرة من اللوحة العامة
إذا ما خرجنا من داخل المعهد بكل مشاكله نحو الصورة الأعمّ، لنراه من الخارج، لا يصعب على أيّ أحدٍ أن يصل إلى استنتاج بأن المعهد كقطعة أُحجية تنسجم تماماً مع لوحة السياسات الليبرالية والخصخصة في البلاد، حيث يتم وضع «الإدارة المناسبة في المكان المناسب»، مع تكريس نفس السياسات، لإبقاء ظروف المعهد على حالها دون حلٍ منذ نحو عشرين عاماً، لتتراكم المشاكل فيه، وبالتالي يستمر خط أدائهِ وتقييمه البيانيّ بهبوطٍ مزمن ومستمر بذلك، لصالح مرادفيه ومنافسيه من القطاعات الخاصة كجامعة المنارة، التي تتضمن قسماً للفنون المسرحية «بأفضل ظروف»، والجامعة العربية الدولية التي ستتفتح في هذا العام قسماً مشابهاً أيضاً، و«الحبل عالجرار»، وصولاً إلى محاولات نعي المعهد العالي للفنون المسرحية بطلابه «المُطفشين» من الذين لا يتحمّلون نفقات «الخصخصة»، لتستمر محاولات احتكار الثقافة والفن والعلم نفسه، فضلاً عن الثروة، بالتمركز بأيدي القلّة فالأقلّ.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 933