الدواء.. صناعة منافسة و«شحتفة» محلية
ليس غريباً أن نشهد فقدان بعض أصناف الأدوية أو ارتفاع أسعار بعضها الآخر على هامش تذبذب سعر صرف الدولار، ومعارك كسر العظم الجارية مع الليرة، والتي ترخي بظلالها على معيشة المواطنين أولاً وأخيراً بالنتيجة، فقانون السوق المحكوم بآليات العرض والطلب المتحكم بها من قبل كبار الحيتان كان وما زال بوابة مشرذعة للربح والاستغلال.
بالمقابل، لا بد من القول إن الواقع الدوائي تحسن بشكل ملحوظ مؤخراً، وذلك بسبب عودة الكثير من المعامل المحلية للإنتاج مجدداً، والإعلان عن دخول منشآت جديدة على خط الصناعة الدوائية، وهي قيد عمليات بدء الإنتاج لبعض الأصناف الدوائية، بما فيها بعض الأصناف النوعية، وذلك بحسب التصريحات الرسمية.
تعميم لم يرَ النور
لا شك أن التذبذب الأخير على سعر صرف الدولار كان فرصة مؤاتية للبعض من أجل جني المزيد من الأرباح على حساب حاجات المواطنين، عبر رفع أسعار بعض السلع والخدمات، بما في ذلك الأدوية، فالذريعة الممجوجة عن سعر الصرف التي لا يمكن إغفالها كونها حقيقة واقعة، جاهزة على ألسنة الجميع (صيادلة- منتجين- مستوردين- مستودعات.. وحتى المهربين)، طبعاً هذه الذريعة تتكرر وتفرض وجودها عند ارتفاع الأسعار المقترن بارتفاع سعر الصرف، لكنها تغيب عند انخفاض سعر الصرف والمطالبة بعودة الأسعار إلى ما كانت عليه، أو بما يتوافق معه، فنادراً ما تنخفض الأسعار بعد رفعها، مع كل الأريحية بتعميم ذلك.
وقد ترافق تذبذب السعر الأخير، والمستمر، وتداعياته، مع صدور تعميم وزارة الصحة المتضمن الطلب من المستودعات التأكد من طباعة الأسعار النظامية على الأدوية عند استلامها من المعمل، والطلب من المعامل الدوائية الالتزام بطباعة الأسعار النظامية التي يتم تسليمها للمستودعات، علماً أن هذا التعميم أتى نتيجة الكثير من المطالبات به من قبل المواطنين بسبب الشكاوى من تباين الأسعار واختلافها بين صيدلية وأخرى، وبين الحين والآخر، وكان وقعه إيجابياً على المواطنين عسى يتم الحد من بعض الجشع والاستغلال الجاري بحقهم، والنتيجة، أن تنفيذ هذا التعميم أصبح «بخبر كان» حالياً، أو سيتم تأجيل تنفيذه بالحد الأدنى، في ظل هذا التذبذب، وبذريعته، الأمر الذي كان فرصة لاستمرار الاستغلال والتكسُّب على حساب المواطنين وصحتهم، ولا ندري متى سيوضع هذا التعميم، الذي لم تشرق عليه الشمس، في التنفيذ وكيف سيتم الإلزام به؟.
الدواء ضرورة وليس سلعة
المشكلة المتعلقة بالأدوية أنها حاجة لا يمكن الاستغناء عنها، أو التخفيف من معدل استهلاكها كغيرها من الحاجات والسلع التي انخفضت معدلات استهلاكها بشكل كبير خلال السنوات الماضية، بسبب الأوضاع المعيشية القاسية والمتردية.
فالوصفة الطبية المرتبطة بعلاج مرض ما تعتبر ضرورة لا يمكن مقارنتها مع أيّة سلعة أخرى، وهي على ذلك تعتبر فرصة استغلال مضمونة، سواء على مستوى السعر، أو على مستوى البدائل (نوعاً ومصدراً)، فالدواء كضرورة بالنسبة للمريض، ليس إلا سلعة كغيرها من السلع في السوق، محكومة بآليات العرض والطلب المتحكم بها من قبل كبار الحيتان، بغض النظر عن تسميتهم ومواقعهم.
فالمريض محكوم بخيارات مفروضة عليه ناحية العلاج والدواء «مكره أخاك لا بطل»، لتأتي ذريعة ارتفاع سعر الصرف وبالاً إضافياً عليه، ليس على مستوى فرض الأسعار المرتفعة فقط، بل على مستوى فقدان بعض الأدوية أو تقنين توزيعها، سواء كانت من إنتاج محلي، أو مستوردة أو مهربة، والاضطرار إلى دفع مبالغ إضافية من أجل تأمينها، أو تأمين بديلها، «بالسراج والفتيلة» و«الشحتفة» من صيدلية لأخرى، وهو ما جرى حالياً بالنسبة لبعض الأصناف، وخاصة النوعية منها، أو أدوية مضادات الالتهاب، بل وبعض المسكنات والمتممات الغذائية والفيتامينات.
شاهد من أهله
على أرضية استعادة الإنتاج الدوائي المحلّي (العام والخاص) لبعض عافيته مؤخراً، لا بدَّ من الإشارة إلى أن ذلك ربما لم يَرُق للبعض ممن استفادوا خلال سني الحرب والأزمة من مشكلة الأدوية وتوفرها، ومن الاستغلال المجحف بحق المرضى لدرجة «عصر مرارتهم» وليس جيوبهم فقط، فهؤلاء لا مصلحة لهم بانتظام واستقرار الواقع الدوائي، لا على مستوى الإنتاج، ولا على مستوى الأسعار، والأهم على مستوى المتابعة والرقابة، وهذه الشريحة من المستفيدين والمستغلين تشمل بعض المعامل الدوائية، وبعض المستودعات، وبعض المستوردين، وبعض الصيادلة، بل وحتى بعض الأطباء ربما، طبعاً مع عدم إغفال مصلحة المهربين، وارتباطاً بذلك بعض القوى الخارجية التي لا يقتصر دورها عند حدود المنافسة فقط، فكل هؤلاء ساهموا وما زالوا بزعزعة هذا الانتظام والاستقرار، ولعل ذريعة سعر الصرف مع تداعياتها تعتبر إحدى أدوات هذه الزعزعة من دون شك.
تأكيداً على ذلك، لقد صرح الأمين العام للمجلس العلمي للصناعات الدوائية في سورية عبر إحدى الصحف الرسمية منذ شهرين تقريباً، بقوله: «إن صناعة الدواء السورية أثبتت منذ بدايتها وجودها على خارطة العلاج في سورية، وبدأت بالتصدير للخارج، وأصبحت صناعة منافسة بقوة للكثير من الصناعات الدوائية العربية التي سبقتها بسنوات عديدة، والإعلام المضاد لها يحاول كل جهده الإساءة إلى فعالية منتجاتها ومحاربتها اقتصادياً، وتمثّل ذلك بمحاربة الشركات الأجنبية ووكلائها للمنتجات المحلية، لأن المنتج المحليّ سيعني إيقاف استيراد الأدوية من الخارج، ومنافسة المنتجات السورية لها في الأسواق الخارجية، والحالة تنطبق على مستوردي الأدوية بصورة عامة».. مع إشارته إلى: «الأسباب السياسية المتعلقة بمحاربة أية نهضة صناعية وطنية كجزء من الحرب الاقتصادية، وكذلك أسباب تتعلق بالأمن الدوائي، لأن توفر منتج دوائي محلي يعني تحييد أية ضغوط سياسية تستخدم توريد الدواء كسلاح لهذه الضغوط، وبالتالي محاولة إضعاف الموقف الوطني السوري»..
بعهدة الصحة ونقابة الصيادلة
بهذا الصدد، تجدر الإشارة إلى أن هناك 96 معملاً دوائياً في سورية، تغطي نسبة 95% من حاجات السوق، وذلك بحسب تصريح نقيب صيادلة سورية «وفاء كيشي» مؤخراً، مبينة: «توفر جميع أصناف الدواء للأمراض المزمنة، باستثناء بعض الأصناف السرطانية وبعض اللقاحات».
أي إنه لا مبرر لفقدان بعض أصناف الأدوية من السوق بذريعة سعر الصرف، أو بغيرها، طالما نسبة التغطية من الإنتاج المحلي هي 95% من الحاجة، ما يعني أن بعض المعامل والمستودعات والصيدليات تساهم بهذه المشكلة، وكذلك لا مبرر لتذبذب الأسعار وارتفاعها دون معاودة نزولها طالما غالبية الأصناف منتجة محلياً، يدخل في تصنيعها بعض المواد الأولية التي تسعر بالدولار فقط، وهي مستوردة نظامياً وباشراف ومتابعة وزارة الصحة افتراضاً، وكافة الأصناف المنتجة محلياً مسعرة رسمياً من قبل الوزارة أيضاً، ولعل الاستثناءات تشمل ما يتم استيراده من قبل بعض المستودعات لبعض الأصناف المحدودة فقط، علماً أن هذه المستوردات تخضع أيضاً للرقابة والمتابعة من قبل وزارة الصحة، من حيث المواصفة والجودة.
بمعنى آخر وأكثر وضوحاً، إن مشكلة الدواء وتوفره وتباين وتذبذب أسعاره واختلافها بين صيدلية وأخرى لم تعد عصية على الحل كما كانت سابقاً طيلة سني الحرب والأزمة وبذريعتها، ومسؤولية حلها تقع على عاتق وزارة الصحة أولاً، وعلى نقابة الصيادلة ثانياً، مع التأكيد على ضرورة الإلزام بتنفيذ مضمون التعميم الأخير حول طباعة الأسعار، مع تشديد الرقابة على توزيع الأدوية على الصيدليات بعدالة ودون تقنين، مع المحاسبة الجدية على كل مخالفة تتعلق بذلك.
«خيرنا لغيرنا»
يبقى أن نشير أخيراً إلى أن المنتج الدوائي المحلي بالإضافة إلى الجزء الذي يتم تصديره رسمياً منه باعتباره منافساً من حيث الجودة والمواصفة والسعر، وهو أمر إيجابي لا شك من حيث استعادة أهمية هذه الصناعة المحلية لتأخذ حيزها ودورها الاقتصادي الهام، سواء ناحية فتح أسواق جديدة أو ناحية ما تؤمنه من قطع لقاء عمليات التصدير، بالإضافة إلى دورها التشغيلي المحلّي، فإن بعض الأصناف الدوائية المنتجة محلياً تجد مساربها إلى الخارج تهريباً أيضاً، بالتعاون والتنسيق بين المهربين وبعض الفاسدين، ونسبة هذه المهّربات تعتبر من حصة الاستهلاك المحلي، بغض النظر عن كمياتها، أي إن التهريب يساهم بشكل مباشر بنقص الكميات وفقاً للحاجة، وبالتالي تعتبر سبباً في رفع سعر المتبقي منها للحاجة «الضرورة» داخلاً، استغلالاً وتحكّماً.
ومع الأسف، غالباً ما نسمع عن ضبط بعض هذه المهّربات من الأدوية من قبل الجهات المعنية في الدول المجاورة وعلى حدودها، وخاصة لبنان، وليس من قبل السلطات الجمركية المختصة لدينا وعلى حدودنا، مع الأخذ بعين الاعتبار أن التهريب الدوائي لا يقتصر على الأدوية البشرية فقط، بل وعلى الأدوية البيطرية أيضاً، وغيرها من المنتجات المحلية الأخرى، والنتيجة يمكن اختصارها بعبارة «خيرنا لغيرنا» بسبب التقاعس والترهل والفساد وغيرها من الأسباب الكثيرة الأخرى، التي تقف خلفها وتستفيد منها وتتقاسمها شبكات الربح والفساد فيما بينها.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 932