الخبز.. شبكات السوق السوداء تحصد الملايين!
رغم كل ادّعاءات التموين وحماية المستهلك بشأن الرقابة على الأفران، وعلى منع بيع مادة الخبز في السوق السوداء، ما زال رغيف الخبر فرصة للتربّح والاستغلال من قبل بعض المستغلين والمنتفعين والفاسدين.
في مكان ليس ببعيد عن مبنى وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك، يوجد مجمع أفران ابن العميد، البالغ عددها خمسة أفران، هذه الأفران دائمة الازدحام، بالرغم من أنها تعمل لساعات طويلة على مدار اليوم، بغض النظر عن أيام العطلة الدورية التي يتوقف بعضها عن العمل خلالها.
مشاهد
الازدحام الدائم والمستمر على مجمع الأفران هذا ليس بسبب كثرة المواطنين على كوّاتها، بل بسبب كثرة «المتسلبطين» على الطوابير، وغالبيتهم من النساء والأطفال، الذين يملؤون كوات البيع، والذين يعمدون للتدافع مع المواطنين بغية إحراجهم وإخراجهم من الطابور، وأحياناً لافتعال المشاكل معهم أيضاً، والمرتبطين عملياً بشبكة من بائعي الخبز في محيط المجمع.
هؤلاء «المتسلبطون» على الطابور والكوّات، لا يلبثون أن يأخذوا عشرات الربطات من إحدى كوّات البيع، إلا ويعاودون الكرة مراراً وتكراراً أمام أعين المواطنين المنتظرين، ليأخذوا كميات إضافية من الربطات، سواء من نفس الكوّة أو من غيرها. وهؤلاء يتبع لهم مجموعة من مفترشي الأرصفة والبسطات كباعة للخبز في محيط مجمع الأفران هذا، وغالبيتهم من الأطفال والشابات صغيرات السن، يتصيدون المواطنين الراغبين في الحصول على الخبز، حيث يلجأ هؤلاء المواطنون إليهم اختصاراً للجهد والوقت المهدور، ونفوراً من الازدحام، وتفادياً للمشاكل، وإن كان ذلك لقاء ضعف سعر الربطة النظامي.
وبحسب شهادات بعض المواطنين فإن البائعين العاملين على الكوّات يعرفون هؤلاء، ويتواطؤون معهم لقاء تقاسم المنفعة المادية على كل ربطة.
فربطة الخبز عن طريق هؤلاء تباع بمبلغ 100 ليرة، علماً أن سعر الربطة هو 50 ليرة، أي: بربح 100% عن كل ربطة، وقد يرتفع هذا السعر وصولاً إلى 150 أو 200 ليرة في بعض الأحيان، وذلك ارتباطاً مع التوقيت وبحسب شدة الازدحام، أو خلال المواسم، وأحياناً بسبب «الكبسة» التي تحد من نشاط هؤلاء وتقلل من أعدادهم، ولكنها لا تمنعهم بالنتيجة.
ولا تجدي مع هؤلاء الباعة محاولات ومساعي المساومة والمفاصلة على سعر الربطة، فسعرهم موحد، وهم عملياً متحكمون به بالشراكة.
شهادة
في سؤال لأحدهم، طفل لا يتجاوز عمره 8 أعوام، في محاولة تخفيض السعر، من باب المساومة والمفاصلة، وبعد المماحكة، قال: إن مبلغ الـ 50 ليرة الزائدة على السعر الرسمي لا يأخذها لذاته، بل يتم تقاسمها مع العامل على كوّة البيع، ومع المشغلين له ومن يحمونه عند الاضطرار، وذلك بحسب ادعائه، الذي يمكن اعتباره صادقاً فيه نظراً لصغر سنه.
كلام الطفل بائع الخبز أعلاه من الناحية العملية يؤكد المؤكد، من أن بيع مادة الخبز في السوق السوداء في محيط الأفران تقوم به وتشرف عليه وتتقاسم أرباحه شبكة متكاملة ومترابطة من المستفيدين والفاسدين.
ملايين من الأرباح المتكالب عليها
وعودة لموضوع مقدار نسبة الربح البالغة 100% عن كل ربطة خبز، فهي لا شك نسبة كبيرة جداً بالمقارنة مع نسب الربح المتعارف عليها، بل تعتبر أعلى من نسب الربح الاحتكارية على بعض السلع والمواد أيضاً في بعض الأحيان، وهي لا شك تعتبر فرصة تكسب مريحة وسهلة ولا تحتاج إلى رأسمال، ويبدو أن لكل فرن ومخبز شبكته الخاصة.
وبالمقارنة مع شدة الازدحام على الطوابير، ومقدار ما يبيعه هؤلاء بمقابل ما يتم بيعه بشكل نظامي عبر الكوّات، يمكن التقدير: أن نسبة استحواذ هؤلاء على سوق بيع الخبز في السوق السوداء تقارب أو تتجاوز الـ50% من كمية الإنتاج المعدة للبيع بالحد الأدنى، وذلك في محيط الأفران فقط، ولكم أن تتخيلوا مقدار الأرباح المحققة في جيوب الشبكة العاملة بهذه التجارة، على حساب المواطنين.
فإذا كان إنتاج الفرن 10 أطنان دقيق يومياً فقط، فهو ينتج افتراضاً أكثر من 10,2 أطنان من الخبز، ولتكن حصة السوق السوداء 50% أي 5 أطنان خبز بالحد الأدنى، فهو ما يعادل 3900 ربطة خبز، باعتبار أن كل ربطة تزن 1300غ، وكل ربطة تحقق مربح 50 ليرة، أي ما يعادل 195 ألف ليرة فقط لا غير يومياً، لكل شبكة تعمل في محيط مخبز واحد، أي بحدود 5 مليون ليرة شهرياً، و 60 مليون ليرة سنوياً.
شبكات متكالبة
هذه الأرباح الكبيرة لاشك لا يمكن الاستغناء أو التخلي عنها بسهولة، وستتكالب من أجلها وحولها شبكات الاستفادة من كل بد، حيث تعمد هذه الشبكات للالتفاف على محاولات ومساعي الحد من نشاطها أو المحاصصة الإضافية معها، وربما لا غرابة من ممارسات «المتسلبطين» على الكوّات من المناحرة والتدافع مع المواطنين، أو افتعال المشاكل معهم، بعد أن عرفنا مقدار ما يتم تحقيقه من أرباح لقاء هذه التجارة السوداء، خاصة وأن الحملات التي يتم القيام بها في محيط الأفران والمخابز بغاية ضبط هؤلاء الباعة غالباً ما تكون شكلية، باعتبار أن القائمين على عمليات البيع الذين يتم ضبطهم هم من الأطفال غالباً باعتبارهم بواجهة الحدث، حيث يتم تركهم بالنتيجة، دون الوصول لبقية عناصر الشبكة العاملة ومحاسبتهم وفقاً للقانون، مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذه الحملات أصلاً ليست دائمة، بل يغلب عليها طابع الارتجال، ناهيك عن تسريب خبرها في بعض الأحيان قبل وصولها والقيام بمهامها، في تشبيك إضافي لا يخلو من أوجه التواطؤ والفساد أيضاً.
ولا ندري رقم الأرباح المحققة المهول أعلاه من مخبز واحد، ما يمكن أن يكون عليه على مستوى مجموع الأفران العاملة في البلد، باعتبار أن حال الانفلات بموضوع التجارة بمادة الخبز في السوق السوداء معممة، ولا تقتصر على مخبز واحد أو محافظة واحدة، والرقم المرقوم الخيالي الذي يتم استباحته من جيوب المستهلكين سنوياً بالنتيجة، وما يمكن أن يجمع حوله من فساد، وما يشتريه من ذمم.
والسؤال: هل تكفي عبارة «أين الرقابة» بمقابل هذا الواقع، وهذه الأرقام التقريبية المنهوبة من الجيوب، على مادة أساسية، وقوت يومي، من المفترض أنه محمي ومدعوم؟.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 911