أسهل الحلول.. الشعلة مدانة ومنها القصاص!
عاصي اسماعيل عاصي اسماعيل

أسهل الحلول.. الشعلة مدانة ومنها القصاص!

حادث الطفلة التي ظهرت عبر مقطع فيديو يوثق استنشاقها لمادة الشعلة وهي بحالة يرثى لها، وصولاً لوقوعها في نهر بردى وسط العاصمة دمشق، وما تبع تداول هذا المقطع المؤلم من معلومات ومواقف وتقييمات، مع ما فرضه على مستوى تقاذف المسؤوليات، يعتبر أحد الأمثلة عن أنماط التعاطي مع الحوادث والملمات اليومية التي يدفع ضريبتها المواطنون وهم بآن ضحاياها، ومقدار ما تتركه من ألم في النفوس.

الأخبار التي تناولت الحادث أعلاه تارة يساق التركيز فيها على الظروف الخاصة بالطفلة وما أصاب ذويها، وتارة يتم تحميل مصور مقطع الفيديو بعض المسؤولية، وفي أخرى يجري البحث عن دور الشؤون الاجتماعية أو الجمعيات الأهلية المعنية، لكنها بغالبيتها كانت مجمعة على إدانة مادة «الشعلة» والمطالبة بالقصاص منها.. هكذا.. لتتوه المأساة ويطوى الخبر بانتظار خبر تالٍ تُسَلَّطُ الأضواء عليه.

الظاهرة القاتلة

بداية لا بد من الإشارة إلى أن موضوع انتشار ظاهرة شم مادة «الشعلة» من قبل الأطفال ليس جديداً، فهذه الظاهرة سبق أن تم تسليط الضوء عليها، وخاصة خلال السنوات الأخيرة بعد توسع انتشارها.
فقبل حادثة طفلة «الشعلة» ومقطع الفيديو التوثيقي المتداول عنها، وحول انتشار ظاهرة شم المادة، أوضحت رئيس دائرة المخدرات بوزارة الصحة عبر إحدى الصحف المحلية مطلع شهر آذار: «أن مشغلي الأطفال بالتسول يستخدمون المادة لإجبار الأطفال على العمل والعودة للمشغل من أجل الحصول عليها؛ لكونها تعطي مفعول المخدر نفسه، محملة مسؤولية معالجة الظاهرة لوزارة الشؤون الاجتماعية لكونها ترتبط بشكل أساسي بظاهرة التسول». مضيفة: «أن الطفل الذي يشم المادة بكميات كبيرة من الممكن أن يحصل لديه تخرب بالدماغ، أو أمراض صدرية، أو التهاب بالرئة أو التهاب بالجلد وأمراض مزمنة أخرى، مؤكدةً احتمالية وقوع حالات وفاة مفاجئة لاستنشاق كمية كبيرة منها، لكن لم يعلن عنها لكون هؤلاء الأطفال مشردين».
ولفتت أيضاً إلى أن: «من يُعلّم الأطفال شم الشعلة حتماً يريد جرهم لتعاطي مواد مخدرة أكثر، موضحةً أنه من الممكن ألّا يصلَ الأطفال لهذه الحالة لتعرضهم للوفاة المبكرة جراء شم المادة، مشيرةً إلى أن الحشيش هو من المواد الأخرى التي انتشر تعاطيها بشكل كبير مؤخراً».
ولعل ظاهرة استنشاق مادة الشعلة واحدة من الظواهر السلبية الجديدة والكثيرة التي زاد انتشارها وتوسعها خلال السنوات الماضية، والتي تؤكد المعطيات أن هناك شبكات عاملة خلفها، سواء بغاية المنفعة المادية أو بغاية التخريب المجتمعي والمزيد منه.

من المفرق إلى الجملة

كثيرة هي أخبار الحوادث المؤلمة والمؤسفة التي تمر على أسماعنا مرور الكرام، ربما بحكم كثرة المآسي التي نعيشها وانشغالنا بهموم الحياة اليومية، وربما بسبب كثرة وتنوع هذه الحوادث وتعدد أماكنها وانتشارها، بحيث أصبحت كغيرها من الأخبار المتداولة يومياً، ومع ذلك ما زالت الحوادث المؤدية للموت أو تلك المتعلقة بالأطفال، لها وقع خاص في أذهاننا، وخاصة المرفقة بصور أو بمقاطع فيديو، تاركة ندوباً إضافية على حياتنا التي أصبحت مليئة بالندوب.
أخبار الحوادث يتم تداولها بالمفرق عادة، حيث يجري الحديث عن كل منها بحسب الحيثيات والظروف الخاصة التي أحاطت بها، مع بعض التحليلات للملابسات التي أدت لوقوعها، وذلك حسب ما يتوفر من معلومات ومعطيات حيالها، وكفى الله المؤمنين شر القتال.
لكن ماذا لو وضعنا تلك الحوادث لننظر إليها بالجملة بدلاً من المفرق؟
فخلال شهر آذار الماضي تم تداول الكثير من الأخبار عن الحوادث المؤسفة، سواء كانت محاولات انتحار أو حوادث سير، أو اشتعال الحرائق في بعض البيوت أو المحال التجارية، وغيرها من أخبار الملمات التي أتت على بعض المواطنين، ومع ذلك فإن بعض الحوادث كان لها وقع خاص كما أسلفنا، وذلك ربما لكونها تخرج عن حيز الحادث العرضي بخصوصيته، إلى كونها ذات بعد أعمق اجتماعياً واقتصادياً، منها على سبيل المثال الحوادث التالية:
يُظهر مقطع فيديو مصور طفلة تشم مادة الشعلة من كيس نايلون، ثم ترمي بنفسها في نهر بردى وسط دمشق.
سيدة تحاول رمي نفسها من سطح بناء سكني في مدينة طرطوس.
العثور على طفل حديث الولادة في إحدى الحدائق العامة في دمشق، مع رسالة يشير محتواها أنها من ذويه.
القبض على سيدة عرضت طفلها للبيع عبر «فيسبوك» في اللاذقية.
العثور على طفل حديث الولادة داخل حاوية في أحد شوارع السيدة زينب، وقد فارق الحياة قبل الوصول للمشفى.
العثور على طفلة حديثة الولادة أمام جامع الثقفي في منطقة باب توما.
القبض على أحد أرباب السوابق وهو صاحب بسطة لبيع القهوة والشاي يقوم بترويج الحبوب المخدرة والحشيش واستغلال أوضاع الفتيات اللواتي يرتدن إحدى الحدائق في دمشق واصطحابهن لمنزله لتشغيلهن بالدعارة مقابل المنفعة المادية.
إلقاء القبض على شخصين في منطقة الرستن بحمص لإقدامهم على تجارة المخدرات وتصنيع وإنتاج الحشيش المخدر وترويجه.
إلقاء القبض على شخص وامرأة يقومان بترويج مادة الحشيش المخدر وحبوب الكبتاغون في محلة جديدة الفضل بريف دمشق.
هذه كانت بعض الأخبار عن حوادث مؤلمة تم تداولها خلال الشهر الماضي بالمفرق، مع الإشارة إلى أن كلاً منها سيقت معه بعض الحيثيات والملابسات، كما تم الحديث عنها عبر وسائل الإعلام مع رصد بعض ردود الأفعال حيالها، رسمياً أو شعبياً.

تساؤلات

ماذا يعني رصد وتوثيق ثلاث حالات رمي أطفال حديثي الولادة من قبل ذويهم في دمشق لوحدها خلال شهر واحد فقط؟ أو أن يصل الأمر لعرض طفل للبيع كأي سلعة عبر «فيسبوك»؟ أو أن تكثر حالات تعاطي المواد المخدرة، وصولاً للأطفال؟
وماذا يعني ربط ظاهرة تعاطي المخدرات مع ظاهرة الدعارة، أو مع غيرها من الظواهر السلبية الأخرى؟
وماذا يعني أن يتم ضبط من يقوم بتصنيع وإنتاج الحشيش المخدر، بالإضافة إلى الترويج له؟ بعد كل التغني خلال السنوات الماضية عن أن سورية تعتبر منطقة عبور لهذه الآفة وليست مكاناً لتصنيعها أو لتعاطيها والترويج لها!.
بعد كل ذلك نتساءل: هل الاكتفاء مثلاً بإدانة مادة الشعلة والمطالبة بتقييد بيعها وتداولها يحل المشكلة، ويمنع تكرارها وتنتهي الظاهرة ومفرزاتها وتشابكاتها؟

السياسات الحكومية هي المدانة

الرصد بالمفرق لهذه الحوادث يُغيب ما يجمعها بالجملة، اعتباراً من مستويات المعيشة السيئة والمتردية، مروراً بالظواهر السلبية الوافدة على مجتمعنا، والتي يزداد انتشارها يوماً بعد آخر، وليس انتهاءً بثقل الواقع الاقتصادي الاجتماعي عموماً، أمّا الأكثر تغييباً فهو دور الجهات الرسمية وغير الرسمية المعنية، والأهم: تغييب دور الحكومة وسياساتها المعتمدة والمتبعة رسمياً.
لا شك أن ظروف الواقع الاقتصادي الاجتماعي تضافراً مع تداعيات الحرب والأزمة، تعتبر مسببات للكثير من الآفات والظواهر السلبية التي زادت واستفحلت خلال السنوات القليلة الماضية، لكن ما لا يجب إغفاله هو أن السياسات الحكومية كان لها الدور البارز على مستوى تعميق هذه الآفات وتوسيع رقعتها، فالواقع المعيشي المتردي والظواهر المرافقة له من فقر وبطالة وتهميش.. وصولاً للظواهر السلبية والتخريبية ومن خلفها، يعتبر نتيجة مباشرة لهذه السياسات.
تقرير أخير للأمم المتحدة أشار إلى أن 80% من السوريين هم تحت خط الفقر، وتقرير المكتب المركزي للإحصاء أشار بوضوح للفجوة الكبيرة بين الدخل والإنفاق، ومع ذلك ما زالت السياسات الليبرالية تفعل فعلها على مستوى المزيد من الإفقار والتهميش، ولا غرابة بعد ذلك أن تتزايد معها كل الموبقات، اعتباراً من مستوى الاستنزاف المعيشي متعدد الوسائل، وليس انتهاءً بشبكات الفساد المستفيدة من كل الظواهر السلبية والتخريبية، والتي تعمل على استمرارها وزيادة اتساعها وانتشارها.
أخيراً، وبكل اختصار يمكن القول: الحكومة هي المعني أولاً وآخراً بمعالجة سوء الواقع الاقتصادي الاجتماعي والمعيشي، مع مفرزاته على مستوى الظواهر السلبية المتزايدة والمتسعة والمنتشرة، وضبط ومحاسبة العاملين فيها والمستفيدين منها، ولن يعفيها من ذلك تركيز الاهتمام على القشور، مثل: إدانة مادة «الشعلة» أو سواها..

معلومات إضافية

العدد رقم:
907
آخر تعديل على الإثنين, 01 نيسان/أبريل 2019 13:35