دمشق - القامشلي: (رحلة الألف حاجز)
تستغرق الرحلة الطويلة من دمشق إلى القامشلي، وبالعكس، ساعات عديدة مليئة بالصعوبات والمتناقضات، وهي كفيلة بالنسبة للمواطن لأن يطرح السؤال التالي: متى ستصبح سورية قادرة على تجاوز أزمتها إلى غير رجعة؟
فقصص الرحلة الطويلة هذه تكاد تشبه قصة رحلة «ليلى» وهي متجهة نحو بيت جدتها في الغابة لتواجه الذئب ومكائده على الطريق، مع الأخذ بعين الاعتبار أن المواطن لا خيار أمامه في تحديد مسار الطريق فهو مفروض عليه، كما هو مفروض عليه أن يواجه العديد من الصعوبات والعرقلات غير المبررة، والتي تكون غاية بعضها الابتزاز والاستغلال فقط لا غير.
قبل الأزمة وخلالها
المسافة الواصلة بين دمشق والقامشلي كانت تستغرق حوالي 9 ساعات على الطرق النظامية قبل سِني الحرب والأزمة، وأصبحت الآن تستغرق أكثر من 18 ساعةً أحياناً، ومع بداية الحرب والأزمة وسيطرة المجموعات المسلحة على بعض الطرقات، تم وقف السفر على هذا الطريق بشكل كامل، مما اضطر بعض المواطنين للجوء إلى الخطوط الجوية بتكلفة مرتفعة وصلت لأكثر من 50 ألف ليرة للتذكرة الواحدة، وأحياناً أكثر من ذلك استغلالاً لحاجات المواطنين، وبعد مضي 7 سنوات على بداية الأزمة وعودة ما يقارب 80% من الجغرافيا السورية إلى سلطة الدولة وبعد تحرير وتأمين هذا الطريق من قبل الجيش العربي السوري من جهة، وقوات «قسد» من جهة أخرى، تم فتح الطريق وإعادته إلى الخدمة، الأمر الذي فتح بصيصاً من الأمل لدى المواطنين وشعورهم بارتياح نفسي، وخصوصاً شريحة الطلاب، ولكن سرعان ما يُخيّم التشاؤم على وجوه هؤلاء مجدداً، مشككين بالأمل من حلّ أزمة وطنهم بعد الاصطدام بواقع الحال المفروض من قبل بعض الجهات المسيطرة على الطرقات.
تفتيش أم سلبطة وتعجيز
الحواجز المنتشرة على طول الطريق، والتي من المفترض أن تكون مهمتها تأمين الطريق وتأمين راحة المسافرين وسلامتهم، تقوم بعضها بتصرفات تجعل المسافر «يقعد على أعصابو» ريثما يصل إلى وجهته، فعمليات التفتيش التي تجري تكون للسلبطة أو للتعجيز، فإما أن تقوم شركات السفر عن طريق السائقين بدفع مبالغ طائلة لبعض الحواجز، مع «السلبطة» على بعض الحاجيات المنقولة، وإما أن يتم إيقاف الباص على هذه الحواجز لمدة تصل إلى أكثر من ثلاث ساعات.. هكذا، الأمر الذي يزيد على كاهل المواطن عبء التكاليف الإضافية ومشقة وعذاب السفر الطويل وطول مدته، فالأموال التي تدفع إلى الحواجز يتم إضافتها إلى سعر التذاكر، ليصل سعر التذكرة الواحدة إلى 14 ألف ليرة، وربما أكثر أحياناً، في حين كان سعرها 500 ليرة سورية قبل الأزمة، ومن المفترض ألا تتجاوز قيمتها الآن حدود الـ 5000 ليرة.
معاون سائق في إحدى شركات النقل العاملة على الخط قال: «حوالي 30% فقط من أجرة السفرة تكون من نصيب الشركة، فيما تتوزع النسبة الباقية بين الحواجز وأسعار الوقود المرتفعة وقطع غيار للباص، التي تكون مفقودة أحياناً ما يجبرهم على شرائها بمبالغ كبيرة، ناهيك عن عدد ساعات السفر التي وصلت إلى أضعاف ما كانت عليه قبل الأزمة».
حواجز الصّيد
بعد الانتهاء من كل حواجز التفتيش النظامية، تبدأ الحواجز الطيارة (كما تسمى بالعلم العسكري)، فهذه الحواجز تكون أشبه بالكمائن، حيث «يلطي» بعض العساكر بين الأشجار الموجودة على أطراف الطرق وعندما يرون أي باص قادم يقومون بقطع الطريق دون أي مبرر، وذلك من أجل أخذ المال من السائق فقط، ما دفع بالسائقين إلى إطلاق تسمية (حواجز الصّيد) على تلك الحواجز وعناصرها، وأصبحت تسمية متعارف عليها لكل حاجز غير معروف التبعية، وغايته ابتزاز المال على الطريق.
شرقستان وغربستان
على الطرف الآخر، وتحديداً المسافة الواقعة بين مدينة الطبقة في الرقة ومدينة القامشلي في الحسكة والتي تقع تحت سيطرة سلطات «الإدارة الذاتية»، نجد ممارسات من نوع آخر ولكن بنفس النتيجة من العرقلة بل أعمق، حيث تقوم سلطات «الإدارة الذاتية» بتصرفات «ما بتنزل لا بميزان ولا بقبان»، حيث يمنع على أي مواطن سوري الدخول إلى محافظة الحسكة ما لم يكن قيده تابع للمحافظة، ولكي يسمح لغير هؤلاء الدخول إلى المحافظة يفرض عليهم تقديم أوراق ثبوتية تحمل توقيع أحد أبناء المحافظة المقيمين فيها، على شكل كفالة، حتى يسمح للزائر بالدخول إليها، وعلى كفالة ومسؤولية صاحب التوقيع، الأمر الذي دفع أحدهم بالقول: «يا زلمة كأنو صار فينا متل «عبد الودود» بفيلم «الحدود» وصرنا بشرقستان وغربستان».
حارة «كل مين إيدو إلو»
الحواجز التي تفرضها سلطات «الإدارة الذاتية» يفوق عددها عدد الحواجز التي تفرضها الدولة، وفي بعض الأحيان لا تكون المسافة بين حاجز وآخر تتجاوز الكيلو متر الواحد، وجميع هذه الحواجز تقوم بالإجراءات ذاتها والأسئلة ذاتها، وعندما سأل أحدهم عن السبب خلف زيادة أعداد الحواجز وتصرفاتها، قال أحد العناصر: أن الحاجز السابق يتبع للجهة «الفلانية» ونحن نتبع للجهة «العلّانية»، وكلاهما يتبعان لسلطة «الإدارة الذاتية»، تماماً كما هي حال الحواجز التابعة للدولة ولجهاتها الأمنية والعسكرية المختلفة.
أمثلة وشهادات
الشاب «محمد نور»، طالب في الصف الحادي عشر يبلغ من العمر 15 عاماً، قال: «ذهبت إلى دمشق لقضاء أسبوع سياحة عند أحد أقربائي، وأنا في طريق العودة إلى القامشلي فوجئت عندما طلب مني عسكري على أحد الحواجز النزول من الباص، بعد الاطلاع على هويتي، قائلاً: كيف لك أن تسافر بدون ولي أمر فأنت ما زلت قاصراً، وقد كانت العقوبة على هذه (الجريمة النكراء) التي ارتكبتها دفع مبلغ 5000 ليرة للعسكري».
«ميساء وهنادي»، فتاتان كانتا بالكاد قد بصمتا للحصول على البطاقة الشخصية، وبعد الاطلاع على إيصالات التسجيل على الهوية قال لهن أحد العساكر: «لازم تجيبو الهوية بأقل من شهر، وإلا..!»، وكأنهم لا يعلمون أن البطاقات الشخصية تتأخر في الوصول إلى محافظة الحسكة دون معرفة الأسباب، بل وكأن المواطن هو الذي يتهرب من استلام بطاقته الشخصية، مع العلم أن وصل التسجيل يمنح مهلة زمنية قدرها ثلاثة أشهر لاستلام الهوية.
أما «خالد» فقد تحدث عن ألمه من واقع الأراضي الشاسعة الممتدة على طول الطريق، والتي كانت زراعية فيما سبق وكيف أصبحت جرداء الآن، ومشاهداته لمصافي وحراقات النفط البدائية المنتشرة على الطريق تحت أيدي المستغلين، مخلفة سمومها وآثارها وأضرارها على الأرض والضرع والعباد والمستقبل، ناهيك عن الأضرار الاقتصادية العامة.
المسؤوليات الوطنية الجامعة
ما يجعل من هذا الواقع المؤلم عرضة للتندر والتهكم بهذا الشكل من قبل المواطنين أحياناً هو أهميته وعمقه وتأثيره السلبي على حياتهم وأمنهم وسلامهم وآمالهم، بالمقارنة مع اللامبالاة تجاه استمراره، فسلوكيات بعض العناصر على بعض الحواجز على هذا الطريق أو سواه، لا يمكن تبريرها على أنها تصرفات فردية حتى وإن كان بعضها كذلك، وخاصة على مستوى الابتزاز والاستغلال المادي والمعنوي للمواطنين، بعيداً عن مبررات ومسوغات الأجور التي تعتبر من مسؤولية الدولة أولاً وآخراً، ومن مسؤوليتها أن يعيش المواطن حياة كريمة مع أسرته دون ذل الحاجة والبحث عن الأساليب الملتوية لـتأمين ذلك، كما من مسؤولياتها وواجباتها محاسبة المخلّين والمخالفين والمستغلين لظروف الحرب والأزمة، وخاصة كبار تجار الحرب والأزمة وكبار الفاسدين، بما في ذلك تلك الممارسات السلبية التي تسيء لدماء الشهداء التي سالت لتحرير تراب الوطن، بالإضافة إلى ما يجري على مستوى الفصل المفتعل للأرض والجغرافيا السورية، والفرز القسري بين السوريين، تعنتاً وتشدداً من قبل «الإدارة الذاتية»، بعيداً عن المصلحة الوطنية العليا الجامعة ومسؤولياتها، وصولاً إلى زعزعة الثقة بالمستقبل والآمال المعقودة عليه.