أسئلة غير عفوية على سياسات هي كذلك أيضاً!
جملة من القرارات والقوانين والتعاميم الصادرة حكومياً خلال السنوات القليلة الماضية كانت موجهة بجوهرها للشريحة العمرية الشابة، وهي الغالبية الساحقة من الشعب السوري، كان آخرها القرار بشأن عدم قبول هؤلاء في الوظيفة العامة ما لم يكونوا قد أدوا الخدمة الإلزامية.
اعتباراً من القرارات الخاصة بالطلاب في مرحلة التعليم الجامعي، وما أكثرها، مروراً بقرارات التعيين والتثبيت والقبول في الوظيفة العامة، على الرغم من قلتها، وصولاً إلى قرارات مفرزات الحرب والأزمة على مستوى شروط عودة الأهالي للمناطق المحررة، والتعويضات عن الممتلكات المعفشة والبيوت المدمرة، وليس آخراً بشروط المغادرة من البلد والرسوم المفروضة بمقابلها، وما بين كل ذلك من تفصيلات إضافية كثيرة، أثقلت كاهل هذه الشريحة وأصبحت عبئاً عليها، ومعيقاً أمام مستقبلها وطموحها.
الاستهداف بدلاً من الاستثمار
هذه الشريحة العمرية من المفترض استقطابها وتسخير إمكاناتها وتطويرها واستثمارها وتوجيهها بالشكل الأمثل، خاصة ونحن مقبلون على مرحلة إعادة الإعمار التي تتطلب جهد الجميع وطاقاتهم، وهو ما تتغنى به الحكومة وتتزايد التصريحات الرسمية من أجلها، بما في ذلك ما يتعلق بمساعي عودة اللاجئين، ومن أجل الخروج الآمن قدر الإمكان من الحرب والأزمة ومفرزاتها.
لكن واقع الحال يقول: إن هذه الشريحة يوماً بعد آخر يتم زجها لتصبح قيد التهميش والتطفيش، لاحقة من سبقها تهميشاً وتطفيشاً بسبب جملة السياسات الحكومية المتتابعة والمستمرة منذ عقود، والتي كانت الحرب والأزمة بعض من نتائجها وتداعياتها، والتي أتت جملة من القرارات لاحقاً وبالاً عليها وعلى أفقها ومستقبلها، مثل:
الاستمرار بسياسات تجميد الأجور، وزيادة معدلات الفقر.
الاستمرار بسياسات تخفيض الدعم على السلع والخدمات، بما في ذلك الأساسية منها، بالتوازي مع ارتفاعات الأسعار المتتالية.
ندرة فرص العمل، بما في ذلك الوظائف العامة، وزيادة أعداد الباحثين عن فرص العمل والعاطلين عنه.
عدم الاهتمام بالإنتاج والعملية الإنتاجية ومستلزماتها، بما في ذلك تلك المحسوبة على أنها قطاع دولة، مؤسسات وشركات ومعامل.
تخفيض الإنفاق على العملية التعليمية بما في ذلك البحث العلمي، ورفع معدلات القبول الجامعي عاماً بعد آخر.
التحول من النظام الفصلي إلى النظام الفصلي المعدل، والتحويل من التعليم العام إلى الموازي للمستنفذين والمفصولين.
زيادة الرسوم السنوية في التعليم الموازي، وزيادة الرسوم على المواد المحمولة في العام والموازي والمفتوح، وتعديل نظام التعليم المفتوح وتحديد سنين قبول الشهادة وسنوات الاستنفاذ، وصولاً لحرمان الطلاب من دورة المرسوم، رغم الكثير من المطالبات المحقة، بذريعة انتهاء الظروف الاستثنائية.
فرض التفرغ للقبول في الدراسات العليا والدكتوراه وفرض شرط الإجازة بلا أجر.
سياسات الإسكان والتنظيم العمراني ونموذج «ماروتا سيتي» و»السكن الشبابي» و..
منح المزيد من التمويل والتسهيلات لأصحاب الثروة ورؤوس الأموال، وحرمان بقية الشعب من هذه التسهيلات وفرص التمويل رغم حاجتهم الأكبر.
الدفع نحو التهميش وزيادة الاحتقان
هذه السياسات والقرارات وغيرها الكثير، إذا تم الوقوف عندها فردياً، ربما نقول: إن فيها بعض الارتجالية أو التخبط، وفي أحسن الأحول، وربما يقال عنها متعجلة، وفي غير أوانها ولم تأخذ حيزها الكافي من الدراسة والتمحيص على مستوى نتائجها وآثارها، لكن عندما ننظر إليها على أنها جملة متكاملة ومتتالية تمس الغالبية العظمى من الشعب، بتراكبها مع جملة ما تعرضت له هذه الغالبية من مغبات وكوارث وضغوط أمنية وعسكرية، وتشرد ونزوح ولجوء طيلة سنوات الحرب والأزمة، لا يمكننا إلا أن نقول عنها: إنها لن تؤدي إلّا لزيادة الاحتقان عبر زيادة أعداد المهمشين يوماً بعد آخر، مع الكثير من عوامل الإحباط والتيئيس التي تزيد من درجات الاحتقان لدى هذه الأغلبية، خاصة مع زيادة معدلات الاستغلال التي تدفع ضريبتها منفردة، فيما ينعم الأثرياء وتجار الحرب والأزمة والفاسدين بالمزيد من الرخاء والرفاهية على حسابها، وعلى مرأى ومشاهدة ومباركة من الحكومة وأولي الأمر.
فالقرارات الخاصة بالعملية التعليمية، اعتباراً من سياسات القبول في التعليم العام والمهني أو الجامعي، وصولاً إلى المناهج والكتاب الجامعي، والتطفيش المتتابع والمتتالي في المراحل التعليمية كافة، تؤدي بنتيجتها إلى تكريس وزيادة التجهيل المجتمعي، شاء أن يقبل بذلك مصدرو هذه القرارات ومعتمدو هذه السياسات واقتنعوا به، أم لم يقبلوا بذلك ولم يقتنعوا به، والسياسات الخاصة بتجميد الأجور وزيادة معدلات الإفقار بالتوازي مع ارتفاعات الأسعار وتزايد تكاليف المعيشة المرتبطة برفع الدعم المتتالي تحت مختلف التسميات، ستؤدي بالنتيجة إلى مزيدٍ من الاستنزاف في القوة العاملة واستهلاكها لأبعد الحدود وصولاً إلى زيادة الاحتقان، توازياً مع زيادة أعداد العاطلين عن العمل والمهمشين، وما يمكن أن يؤدي كل ذلك من إعادة إنتاج الأزمة، مع خلق وقودها وحطبها المتمثل أولاً وأخيراً بهذه الشريحة العمرية التي غدت مكبلة ومغلقة الأفق رغماً عنها، مع ما تتعرض له من ضغوط إضافية، نتيجة الانعكاسات السلبية لجملة من الآفات التي عملت عليها شبكات واسعة من المستفيدين والفاسدين، والتي زادت واتسعت خلال سنوات الحرب والأزمة (التهريب- المخدرات- الدعارة- تجارة الأعضاء- الخطف-..)، بينما من المفترض أنها الفاعلة والمنتجة، والتي تعتبر عماد الحياة والاستقرار الاجتماعي والاقتصادي ومستقبل البلد.
أسئلة غير عفوية
هل من الممكن أن نتجاوز نتائج الحرب والأزمة بالأدوات والسياسات نفسها التي أفرزتها؟
هل مصلحة أصحاب رؤوس الأموال والفاسدين أهم من مصلحة الوطن؟
هل هناك من يسعى لإطالة أمد الأزمة وتداعياتها؟
هل مصلحة أمراء الحرب والأزمة أهم من مصلحة البقية الباقية من الشعب؟
هل هناك من يسعى لإعادة إنتاج الأزمة، ويمهد لتجميع وقودها وحطبها مجدداً؟
هل وهل وهل...؟
كثيرة هي الأسئلة التي من الممكن أن تساق موجهة للحكومة والقائمين على السياسات المتبعة، بناء على ما سبق سرده فقط، علماً أن الجعبة فيها الكثير مما يمكن سرده وتفنيده غير ذلك، مع الكثير من الشواهد والأرقام على مجمل السياسات المتبعة، وما يمكن أن تفرزه من تساؤلات غير عفوية أخرى كثيرة، كان من نتائجها المباشرة على هذه الشريحة بشكل خاص وعلى بقية الشرائح بشكل عام (التطفيش من التعليم- التطفيش من الإنتاج- التطفيش من البلد- التطفيش من الأمل- التطفيش من الحياة..).
ومع ذلك نختصر لنقول: إن السياسات الليبرالية المتوحشة المستمرة والمتبعة منذ عقود هي المسؤولة بشكل رئيس عن كل ما وصلنا إليه وطناً وشعباً، ولا يمكن بحال أن نتوقع أفضل مما وصلنا إليه، في حال الاستمرار بنفس هذه السياسات، وبنفس العقلية السائدة على مستوى إدارة الأزمة، بذريعة الخروج منها، اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وثقافياً وأمنياً و..، وهو ما يجب أن يتم العمل على تجاوزه والقطع معه من أجل الخروج الآمن فعلاً من الحرب والأزمة ونتائجها وتداعياتها، عبر زج الطاقات الوطنية والشعبية بوجه هذه السياسات والمماطلين بها والقائمين عليها والمستفيدين منها، وهو ما سيكون!