كفاءات المستقبل في مهب التعليم المأجور
تزايدت خلال السنوات الماضية قرارات وزارة التعليم العالي، التي رأى فيها الطلاب إجحافاً بحقهم بالتعلم، وتعالياً على ظروفهم وأوضاعهم، كما رأى بعضهم الآخر أن جوهر هذه القرارات يصب باتجاه تعزيز التعليم المأجور في الجامعات الحكومية والخاصة، على حساب التعليم المجاني، ما يعني المزيد من الفرز الطبقي على مستوى الحق في التعلم.
فقد صدر مؤخراً عن وزارة التعليم العالي قرار يتعلق بطلاب الدراسات العليا الراغبين باستكمال تحصيلهم العلمي للحصول إلى درجة الدكتوراه، حيث كان وقع القرار على هؤلاء الطلاب مزعجاً وفيه الكثير من الاستهجان.
درجة الدكتوراه للميسورين
القرار الوزاري صدر برقم 384 تاريخ 12/7/2018، وقد احتوت تفاصيله على ما يلي:
يشترط من أجل التسجيل في درجة الدكتوراه في الجامعات والمعاهد العليا، بمن فيهم أعضاء الهيئة التدريسية الفنية ما يأتي:
أن يكون الطالب متفرغاً خلال السنة الأولى من تاريخ صدور قرار مجلس الجامعة بتسجيله.
إبراز وثيقة غير عامل بالنسبة إلى غير العاملين.
قرار منحه إجازة خاصة بلا راتب، أو إجازة دراسية، أو قرار إيفاد، بالنسبة إلى العاملين في الدولة لمدة عام على الأقل.
مضمون القرار أعلاه قد يعني الحرص على أن يكون طالب الدراسات العليا متفرغاً من أجل الحصول على درجة الدكتوراه، بحيث لا تشغله أية التزامات واهتمامات أو ضرورات أخرى، بغاية تكريس وقته وجهده في العلم والبحث العلمي، وهو أمر حبذا لو توفرت ممكنات تحقيقه الفعلية، وخاصة في ظل الظروف الاقتصادية المعيشية السيئة.
فواقع الحال يقول: إن الغالبية من الطلاب، بمختلف مراحل الدراسة، اضطروا إلى العمل من أجل تأمين بعض ضرورات الحياة ومستلزماتها، ما يعني عدم توفر إمكانية التفرغ التام للدراسة والتحصيل العلمي، والحال كذلك فإن القرار أعلاه يعني: أن من يستطيع التفرغ من هؤلاء هم الشريحة الميسورة فقط لا غير، فيما سيحرم الطلاب المفقرون من الحصول على درجة الدكتوراه.
مزيد من الفرز عبر المحسوبية
الأمر لا يقف عند هذا الحد فقط، فمن المعروف أن قرارات الإيفاد محصورة بالبعض من المحظيون والمقربين، وكذلك هي حال الإجازة الدراسية، وهؤلاء المحظيين لا يخشون على مواقعهم الوظيفية، فبعد عودتهم من السهولة إيجاد مواقع وظيفية بديلة لهم، بل ربما تكون أحسن من سابقتها بحكم معارفهم ووساطاتهم، أما من سيحصل على الإجازة الخاصة بلا أجر، فهؤلاء مما لا شك فيه أنهم سيفقدون مواقعهم الوظيفية، وربما سنوات خدمتهم وتعبهم خلالها، وهو أمر لا يعتبر خارج حدود القانون في شغل الوظيفة العامة، ليجدوا أنفسهم في مواقع وظيفية أدنى لاحقاً، بحكم المنافسة التي تطغى عليها المحسوبيات غالباً، وهو أمر شائع ومعروف مع الأسف.
تعزيز مواقع الأثرياء
دون الخوض بالمزيد من التفاصيل، وخاصة على مستوى بعض أوجه التباين في التعامل مع طلاب الدراسات العليا بين من هم مأجورون ومن هم غير ذلك خلال مدة دراستهم، فإن القرار أعلاه لا يمكن تبويبه إلّا ضمن تعزيز الفرز الطبقي بين الطلاب، ما يعني: انعدام تكافؤ الفرص بين الميسورين عن سواهم من المفقرين، ليتوج الأمر بعد ذلك على مستوى فرص العمل لاحقاً كذلك الأمر، بحيث يحظى هؤلاء الميسورون بالفرص الأفضل والأحسن من كل بد، على إثر إبعاد المنافسين من الشرائح المفقرة تباعاً، والنتيجة أن الأفق المرسوم وزارياً وحكومياً على هذا المستوى لا يصب إلا باتجاه تعزيز مواقع طبقة الأثرياء، علمياً وعملياً، وعلى مستوى مراكز اتخاذ القرار تباعاً، ليحصد الفقراء المزيد من التهميش والإفقار والبطالة، بحكم طبيعة الانحياز الطبقي في مواقع القرار، وبحكم الاستمرار بسياسات الإفقار المعمول بها.
أخيراً، يمكننا القول: أنه وبحكم ما جرى خلال السنوات الماضية من نزف على مستوى الكفاءات العلمية بمختلف الاختصاصات، ومن أجل ترميم جزء من الحاجة للكفاءات، وخاصة من مستوى البحث العلمي نظراً لأهميته الاستراتيجية، ربما كان الأجدى على وزارة التعليم العالي أن تفرغ طلاب الدراسات العليا، والراغبين في الحصول على درجة الدكتوراه، على نفقتها ونفقة الحكومة، مع ضمان عودة هؤلاء لمواقع وظيفية أفضل بحكم حصولهم على الدرجة العلمية الأعلى، بدلاً من هذا التوجه الذي لا يؤدي إلّا إلى المزيد من استنكاف الطلاب عن متابعة التحصيل العلمي العالي، بحكم الحاجة وضروراتها، والنتيجة خسارة الوطن لهذه الكفاءات كمشاريع علمية واعدة للمستقبل.