متر بمترين أسرع وأرخص
نوار الدمشقي نوار الدمشقي

متر بمترين أسرع وأرخص

في حديث مع إحدى الصحف المحلية بتاريخ 6/2/2018، صرح وزير الأشغال العامة والإسكان: أن «الوزارة ستعتمد خيارات ونماذج سكن تحقق رغبة شريحة الشباب، في مراحلهم الأولى باتجاه تأمين وظيفة ورسم مسار حياتهم العملية، والمقبلين على الزواج وتكوين عائلة، إذ أن الظروف باتت ملحة، وتقتضي البحث عن حلول، ولذلك تركزت الجهود على اعتماد نماذج سكنية متعددة ومطلوبة لهذه الشريحة.




وقد سبق للوزير أن قال مطلع شهر شباط الحالي: «يجب التفكير بدراسات جديدة تتضمن بناء مساكن مساحتها صغيرة ووفق ضوابط ومخططات ونماذج معينة بحيث تناسب مساحتها وسعرها ذوي الدخل المحدود، وضرورة أن تلحظ المؤسسة العامة للإسكان في مشاريعها التي تطرحها عدداً من المقاسم لهذا الغرض».

المشكلة بالسياسات
حديث الوزير أعلاه، عن الشباب وحياتهم والضرورة الملحة لبناء مساكن بمساحات صغيرة، تناسب أسعارها ذوي الدخل المحدود، ربما يضاف إلى الكثير من الأحاديث الرسمية السابقة، والوعود التي تم إطلاقها، من أجل إيجاد حلول لمشكلة السكن والإسكان، والتي لم تخرج عن كونها أحاديث ووعود فقط لا غير طيلة العقود الماضية وحتى الآن.
فقضية تأمين المسكن، كانت وما زالت من أعقد وأصعب القضايا التي تواجه المواطنين، والسبب الرئيس خلف ذلك، هو: غياب هذه القضية عن الخطط الاستراتيجية والبرامج الحكومية المتكاملة منذ عقود، لكنها في المقابل لم تتعارض مع السياسات الحكومية.
فعلى الرغم من كثرة الحديث عن قطاع الإسكان طيلة العقود الماضية، وعلى الرغم من الدور المفترض للحكومة بهذا الصدد، عبر جهاتها المكلفة بمهام السكن والإسكان، وخاصة المؤسسة العامة للإسكان، إلا أن هذا القطاع لم يقم بمهامه حسب ما تقتضيه الضرورة، وذلك لغياب تلك الخطط والاستراتيجيات أصلاً عن السياسات المتبعة من الحكومات المتعاقبة، في مقابل تغول وانتشار العشوائيات ومناطق المخالفات، مع ما يرتبط بها من مصالح لتجار وسماسرة العقارات، على حساب مصلحة المواطنين، وحقهم بالمسكن الصحي المناسب والملائم.
بمعنى آخر، كانت السياسات هي المشجعة على انتشار العشوائيات والمخالفات، كما هي نفسها من أفسحت المجال واسعاً لتشوه سوق العقارات والمضاربة بها، بما يحقق أكبر عائد من هوامش الربح في جيوب التجار والسماسرة.

الأرباح محصنة
على ذلك، فإن حديث الوزير أعلاه، لا يعدو كونه زبداً إعلامياً لا أكثر ولا أقل، وذلك لاستمرار غياب خطط الإسكان على المستوى الوطني، تنفيذاً وإشرافاً من قبل الدولة نفسها عبر جهاتها المسؤولة عن هذا القطاع، وهو الأمر الغائب، خاصة في ظل التغني بالدور المرتقب لشركات التطوير العقاري المحدثة.
فقد قال وزير الإسكان: «إن الوزارة سوف تعتمد صيغة تلزم من خلالها كافة شركات التطوير العقاري، والمؤسسات التي تُعنى بتنفيذ مشاريع السكن، لتخصيص مقاسم محددة لهذا النوع من المساكن».
أما على مستوى التكلفة فقد قال الوزير: «إن الوزارة اعتمدت مبدئياً ثلاثة نماذج لهذا النوع من السكن، بالتعاون مع مهندسين، موضحاً: أنه من السابق لأوانه حالياً الحديث عن أسعارها وكلفها بشكل دقيق».
والترجمة العملية لكل ما سبق، أن المخططات السكنية القادمة على المستوى التنفيذي، عام أو خاص، سيكون فيها تخفيض بالمساحات لبعض الشقق، بذريعة الشباب وذوي الدخل المحدود، أما على مستوى التكلفة والسعر فتعتبر من الخطوط الحمر التي لا يمكن تجاوزها، خاصة في ظل تكريس النمط الاستثماري الربحي في قطاع السكن والإسكان، بما فيه بعض مشاريع الدولة نفسها التي تقوم بها المؤسسة العامة للإسكان، وذلك كله وفقاً للقانون والتعليمات النافذة، ناهيك عن أوجه الفساد والمضاربة التي تزيد من التكلفة والسعر بنهاية المطاف، فالأرباح محصنة حالها كحال المستثمرين في هذا القطاع.

حق مهدور!
المواطن المكوي منذ عقود، من غياب حاجته، وحقه بالمسكن الصحي، على مستوى خطط الإسكان الموضوعة حكومياً، وغياب دور الدولة عن هذا القطاع الهام، بل والتسويف متعدد الأوجه بوصول بعض المواطنين لهذا الحق، على الرغم من التزامهم مع المؤسسة العامة للإسكان، بمشاريعها المعلن عنها منذ عقود، بمختلف مسمياتها (شبابي_ عمالي_ اجتماعي_ وغيرها)، والتي لم ير بعضها النور حتى تاريخه، على الرغم من رفع أسعارها تباعاً طيلة السنين الماضية، أو البعض الآخر الذي هُدر حقه مع الجمعيات السكنية، هذا المواطن، لم تعد تعنيه ربما قضية المساحة، زادت أم نقصت، بقدر ما يعنيه المواصفة الصحية والسعر المناسب حقاً وحقيقة وسرعة الإنجاز، عسى يتمكن قبل أن يشيخ من تأمين سقف يؤيه مع أسرته.
وقد تندر بعض المواطنين على التوجه الجديد، فقد قال أحدهم عبر إحدى صفحات فيسبوك: «حاجه غرفه وصالون كل الشعب أبلان يسكن ويركن ويخلص من البهدلة، على أساس كلوا بدوا فلل!».
وقال آخر: «سلمو القديم وبعدين فكروا بالجديد»!
فيما قالت إحداهن: «خلوها علب كبريت، أو يمكن متر بمترين أرخص وأسرع، خلصونا بقا».

بيوت «الكبسولة»
أخيراً، يمكننا القول: أنه في ظل الواقع الاستثماري الربحي، بمجال السكن والإسكان والمضاربة العقارية المنفلتة بهذا القطاع منذ عقود، والتي ستزيد مع تغوّل شركات التطوير العقاري، الباحثة عن الأرباح السريعة، على حساب المواطن وحقه، ووفقاً للتوجه الرسمي أعلاه مع زيادة الطلب على المساكن، ومع كل الطبل والزمر عن إعادة الإعمار، ربما لا نفاجأ بمساكن لذوي الدخل المحدود والشباب، شبيهة بفنادق «الكبسولة» التي انتشرت في بعض البلدان، فهي صغيرة جداً، وتكلفتها قليلة، وقريبة الشبه بالتابوت أو القبر.
ولِمَ لا، فالسياسات المتبعة قد توصلنا لمثل هذه النتائج، وربما يمكن لنا أن نتوقع الأسوأ!

بيت العمر
عطفاً على ما ورد أعلاه، بشأن بيت العمر لذوي الدخل المحدود والشباب، وبقراءة أكثر واقعية من الأحاديث الإعلامية كلها، عن السعر المناسب والمساحة الصغيرة، التي لا تغني ولا تسمن من جوع، فإن واقع الأجور الحالية بالكاد تغطي جزءاً من الإنفاق على الاحتياجات المعيشية للأسرة، والتي غالباً ما تكون على الحاجات الغذائية فقط، فكيف الحال باقتطاع جزء منها من أجل تأمين المسكن، هذا في حال التمكن من الاقتراض لهذه الغاية.
فعلى الرغم من إعلان المصرف العقاري عن توفر سيولة كبيرة لديه، وبأنه سيعاود إطلاق الإقراض بسقف 5 مليون ليرة، بما يحقق له تدوير سيولته واستثمارها، فإن واقع أسعار العقارات النظامية، التي تشترطها قيود الإقراض، يفوق أصلاً هذا السقف أضعافاً مضاعفة، ناهيك عن أن التعليمات تقتضي اقتطاع ما لا تتجاوز نسبة 30% من الأجر، ما يعني أنه من المفترض على المقترض، أن يكون أجره الشهري بحدود 80 ألف ليرة بالحد الأدنى، كي يتمكن من تسديد القرض على مدى 180 شهراً، أي 15 عاماً، وهي المدة القصوى للقرض العقاري حسب التعليمات الأخيرة، هذا في حال وجد مسكن العمر الذي يحلم به، بسعر 5 مليون ليرة، علماً أن أسعار مساكن المؤسسة العامة للإسكان بحدودها الدنيا حالياً تتجاوز الـ 7 مليون ليرة.
بمعنىً آخر، فإن معاودة إطلاق القروض العقارية لن تكون غايتها تأمين السكن للمواطنين، بل ربما ستوجه بالشكل العملي على عمليات الترميم للبيوت التي أتى عليها الدمار خلال سنوات الحرب، ومع ذلك وبحساب أكثر واقعية فإن تقسيط مبلغ الـ 5 مليون ليرة على مدار 15 عاماً، يعني: أن على المقترض أن يسدد شهرياً بحدود 27 ألف ليرة، وهو عملياً متوسط الأجر الحالي، أي على المقترض أن يفتح فمه للهواء مع أفراد أسرته طيلة 15 عاماً، كي يتمكن من ترميم منزله فقط. وبمعنىً أكثر وضوحاً، فإن معاودة الإقراض من الناحية العملية ستصب خارج خانة محدودي الدخل، وسيستفيد منها من جديد تجار وسماسرة العقارات، ولا أحد سواهم.
على ذلك، فإن الحديث كله، عن حل مشكلة السكن والإسكان بمعزلٍ عن حلّ مشكلة الوضع المعيشي ومستويات الأجور، ما هو إلا ذر للرماد في العيون، وسيبقى حلم بيت العمر يراود ذوي الدخل المحدود، وفقراء الحال، كسرابٍ بعيد المنال، وربما متر بمترين هي سقف ما سيصل إليه هؤلاء من طموح.