في سوق الهال السعي للربح يسقط الفحولة؟
نوار الدمشقي نوار الدمشقي

في سوق الهال السعي للربح يسقط الفحولة؟

مخطئ من يظن أن هناك أعمالاً ما زالت حكراً على الرجال، من كان يظن بأن عمل العتالة والتحميل والتنزيل، الذي يعتبر من الأعمال العضلية المرهقة، ستدخل عليه النسوة من باب المنافسة مع الرجال تحت ضغط الحاجة والعوز؟!

هذا العمل الذي كان حكراً على الرجال، من أصحاب البنية الجسدية القوية والعضلات المفتولة، ثم ما لبث أن دخل عليه الفتيان والصبية لاحقاً، وأصبح الآن متاحاً كذلك الأمر أمام النساء والفتيات الصغيرات.

تراكب عوامل العوز مع الاستغلال!
هذه الإتاحة كانت نتيجة لتراكب عوامل الفقر والحاجة والعوز، مع عوامل الاستغلال متعددة الأشكال والألوان، وخاصة خلال سنين الحرب والأزمة وتداعياتها العديدة والمركبة، اعتباراً من النزوح والتشرد، مروراً بعدم توفر فرص العمل، وليس انتهاءً بالفقر والجوع.
فسوق الهال في منطقة الزبلطاني وسط العاصمة دمشق، والذي كانت تسيطر عليه الذكورة والفحولة على مستويات العمل فيه كافة، منذ عقود، دخلت عليه النسوة أولاً من باب استجرار بعض الخضار، أو المواد والسلع الأخرى، بالجملة من أجل بيعها في أسواق العاصمة بالمفرق، كفرصة عمل أجبرت عليها بعض النساء بحثاً عن مورد رزق يقيهن شرور الحاجة، ويسد بعضاً من ضرورات المعيشة.
وعلى الرغم من أن ذلك كان كسراً للمألوف التاريخي الذكوري المسيطر على مستوى العمل في هذا السوق، إلا أن بعض النسوة فرضن وجودهن على هذا المستوى من الأعمال الصغيرة، وأثبتن جدارتهن فيها.
لكن ظروف الحرب والأزمة، وخاصة مفرزاتها على المستوى المعيشي وضغوط الحاجة، فرضت على بعض النسوة أن يدخلن باب المنافسة مع الرجال في سوق الهال، على مستوى عمل العتالة والتحميل والتنزيل منذ ما يقرب العامين تقريباً، خاصة وأن بعضهن أصبحن المسؤولات عن الإعالة لأسرهن، كإحدى النتائج المباشرة للحرب والأزمة.

استغلال مزدوج
هذه المنافسة لم يفسح لها المجال من باب القوة الجسدية والقدرة العضلية وتحمل الأعباء وضغوط العمل، بقدر ما كانت من بوابة الاستغلال والمزيد منه من قبل تجار سوق الهال، سواء للنساء أو للرجال والفتية العاملين في العتالة والتحميل والتنزيل في هذا السوق الكبير.
فالرجل الذي يعمل بالعتالة في سوق الهال، كانت يوميته تتراوح بين 2000- 2500 ليرة قبل عامين، أي: قبل أن تدخل النسوة والفتيات إلى هذا العمل، أما بعد أن أصبحن قوة عمل منافسة في هذه السوق، فقد أصبحت يومية هذا العامل تتراوح بين 1500- 2000 ليرة، في مقابل يومية النساء التي تتراوح بين 1000- 1500 ليرة، وهي بالكاد تغطي بعض الاحتياجات الضرورية للمعيشة شهرياً، من بدلات إيجار أو غذاء أو دواء ونقل ولباس وغيرها.
فأجور العتالة تحسب بالكم وحسب النوع والحجم والوزن (أكياس_ صناديق صغيرة «شرحة»_ صناديق كبيرة_ عبوات بلاستيكية_ عبوات كرتونية_ تنك_ وغيرها)، كما أن عمليات نقل البضائع من السيارة للأرض تختلف أجورها عن عمليات التستيف والمناولة في المستودعات، وهكذا.. مع ما يعنيه ذلك من استغلال مباشر يصب في مصلحة التجار أولاً وآخراً بشكل أرباح إضافية، فالقوة العضلية بضاعة كما غيرها في هذه السوق التي يحكمها العرض والطلب، كما تتحكم بها أوجه الاستغلال، وليسقط في مقابل ذلك التغني كله بالفحولة والذكورة المسيطرة على السوق تاريخياً.

أوجه أخرى للاستغلال
مما لا شك فيه، أن بعض الحمولات الكبيرة التي تحتاج لبنية جسدية قوية وعضلات ما زالت حكراً على الرجال، لكن ما عدا ذلك كله من حمولات صغيرة، أو عمليات التنزيل والتستيف أصبحت مجالاً للمنافسة بين الرجال والنساء، وحتى الفتيات الصغيرات، كما أنها بوابة مشرعة لاستغلال الطرفين، وخاصة على مستوى الأجور كما سلف.
لكن الاستغلال الجاري بحق النساء والفتيات في سوق الهال لم يقف عند حدود الأجور الهزيلة، التي تنحو للانحدار يوماً بعد آخر، على إثر المزيد من استقطاب هؤلاء للقيام بهذه الأعمال، نتيجة ظروف الفقر والقهر المستمرة، بل هناك أوجه أخرى للاستغلال أبشع من ذلك، قد تبدأ بأن هؤلاء يعملن في العراء، صيفاً تحت أشعة الشمس الحارقة، وشتاءً في ظروف البرد والأمطار والأرض الموحلة الزلقة، وربما لا تنتهي عند حدود التحرش اللفظي، وحتى الجسدي أحياناً، وعلى مرأى ومسمع السوق بمن فيه، وما خفي ربما يكون أعظم!

آفاق مسدودة
الأكثر بؤساً، أن لا أفق منظور على مستوى تحسن الأوضاع المعيشية، التي كانت السبب الرئيس لزج النساء والفتيات في مثل هذه الأعمال المرهقة تحت ضغوط الحاجة، ولا على مستوى تحسين شروط عمل هؤلاء في هذه السوق المفتوحة للاستغلال تحت مسمى: العرض والطلب على قوة العمل، بلبوس التعاطف «المصطنع» الذي يبديه التجار على حال هؤلاء النسوة وأوضاعهن.
فالسياسات الحكومية المفقرة ما زالت على حالها، وستستمر، رغم الوعود الخلبية كلها، عن تحسين المستوى المعيشي والواقع الاقتصادي الاجتماعي، كما أن طبيعة العمل في السوق، وعدم استقرار قوة العمل فيه، تعتبر ذريعة لغض الطرف عن أوجه الاستغلال الكثيرة الجارية بحق العاملين فيه، سواء كانوا رجالاً أو نساءً وحتى أطفالاً.

الفحولة والجعجعة
قد يبدو للعابر في السوق، أن هناك طغياناً للفحولة من خلال الأصوات الذكورية المرتفعة، والصوت العريض «البوجقة»، والكثير من الألفاظ النابية التي من المفترض أنها تعتبر حكراً على الذكورة في الأماكن المفتوحة، بحيث أصبحت وكأنها شرعاً مألوفاً للتعامل في السوق، لتتهاوى هذه الفحولة الكاذبة كلها، أمام مشاهدة ومعرفة أوجه الاستغلال التي يتعرضن لها النساء والفتيات العاملات بالعتالة في هذه السوق، استغلالاً لوضعهن وحاجتهن وعوزهن، وصمتهن الاضطراري أمام أشكال الاستغلال الذكوري، وخاصة من قبل بعض التجار وأصحاب المحال التجارية في السوق، في ظل الغياب الرسمي للدولة على مستوى دورها وواجبها تجاه المواطنين عموماً في حقهم بالعيش الكريم، الذي من المفترض بأنه مصان!
ووفقاً لنسق المقارنة والمقاربة بين الذكورة والفحولة والرجولة، ربما يسعنا القول: إن الفحولة المتهاوية استغلالاً لم تقتصر على السوق فقط، بل على مستوى السياسات الحكومية نفسها، فلا وعود التحسن المعيشي نفذت، ولا سبل العيش الكريم وفرت، على الرغم من الجعجعة الحكومية كلها التي ملأت الإعلام وصمت الآذان!