تصفيق وأدعية والسبب «خليوي الفقراء!
في أحد المؤتمرات النقابية، ومن ضمن جدول أعمال المؤتمر، تحدث أحد المسؤولين، من ضمن كلمته «التوجيهية» للمؤتمرين الحاضرين: شارحاً الوضع الصعب الذي تعيشه البلد اقتصادياً، ومبرراً توجه (اقتصاد السوق الاجتماعي)، وأن الدولة غير قادرة على توظيف المواطنين كلهم، ويجب البحث عن وسائل أخرى للحياة المعيشية، سواء كانت أعمالاً فردية أو قطاعاً خاصاً، والابتعاد عن الحياة الاستهلاكية التي أصبحت تبتلع معظم دخل المواطن.!
وكمن تذكر شيئاً مهماً قال: «تصوروا البارحة دخلت صبية في مقتبل العمر إلى مكتبي، طالبة مساعدتها في تأمين عقد ثلاثة أشهر في إحدى مؤسسات الدولة» (رفع جهازه الخليوي) واستطرد قائلاً: «والله حاملة جهاز خليوي أغلى من جهازي»، واشتعلت قاعة المؤتمر بالتصفيق!!!
صعقني ذلك التصفيق، التفت يميناً ويساراً وتساءلت:
من أجل ماذا تصفقون؟
أنتم بأنفسكم منذ دقائق قليلة كنتم تشكون بؤسكم، والفارق الكبير بين أجوركم ومتطلبات حياتكم وحياة عائلاتكم للمسؤول نفسهِ!.
لقد استفزني ذلك التصفيق ولم أعتبره عادياً، بالرغم من أني اعتبرت كلام ذلك المسؤول قد يحدث، لولا تكراره بالفترة الزمنية نفسها!.
ثقافة مرحلة
من خلال جولاتي المتكررة على دوائر الدولة للحصول على معلومة، أو شرح لبعض المشاكل التي كنت أحاول الإضاءة عليها كمراسل لجريدة قاسيون، أصبح هناك بعض القبول والود من البعض، ممن نلتقي بهم من مدراء ورؤساء أقسام وغيرهم، وأصبحت السكرتيرة تدخلنا دون انتظار، ولفت نظري أحدهم بتواضعه والتغني بفقر عائلته، وكيف يعتبر ذلك الفقر تاجاً على رأسه، وبالرغم من أنه درس في الجامعة، وتخرج برتبة علمية مميزة، قال بتواضع: «أنا أربي بقرة ودجاجات، وقبل أن آتي إلى عملي أقوم بكل ما يتطلب ذلك من رعاية «.
كبر في عيني وخاصة عندما نصحني أحد الرفاق، الذي يعرفه جيداً، بأن أعطيه جريدة قاسيون دائماً (لأنه تقدمي)...
في أحد الأيام شكت لي عائلة فقيرة، من منطقة ذلك المسؤول نفسها، عن ضيق حالها، وقلة حيلتها في تأمين متطلبات أولادها، وطلبوا مني أن أساعدهم في تأمين عقد (مستخدمة) للزوجة، خاصة، وأن الحكومة قد بدأت بتدشين مشفى جديد في تلك المنطقة، وبحاجه إلى عمال وموظفين ومستخدمين وغيرهم...
تذكرت ذلك المسؤول، وقلت في نفسي «وجدتها».
قصدته وأدخلتني السكرتيرة كالعادة دون انتظار.
رحب بي كالعادة، وقلت له: هذه المرة «قاصدك بخدمة»، فقال لي تفضل، شرحت له وضع تلك العائلة من منطقته (وللتأثير في مشاعره) تغنيت بواقع فقرهم، وشرحت له كيف من الممكن لـ عقد (مستخدمة) كهذا أن يساعد تلك العائلة من الفقر والعوز...
قاطعني (وهو يقلب أضابير على الطاولة) قائلاً: «بتعرف كم خليوي في البيت»؟؟
خرجت من مكتبه دون أن أنهي الزيارة، بعد أن «أفحمني» في الإجابة عن سؤال يتردد في ذهني: ما سبب وأين يكمن بؤس الفقراء؟؟
وهنا صرخت: «وجدتها»، دون الاعتذار من أرخميدس، وعرفت سر بؤس الفقراء، هم أنفسهم، بسلوكيتهم وامتلاكهم أجهزة خليوي حديثه!!
ثم تساءلت: ما دام الفقراء يشكلون معظم عدد سكان العالم، وإذا ما اتخذوا قراراً بعدم امتلاك أجهزة الخليوي، ماذا ستفعل تلك الشركات؟
استحضار التاريخ
في الوقت نفسه استحضرت ذاكرتي قصة عن جدي، كان والدي والجيران يكررونها دائماً:
كانت طرطوس في تلك الفترة من الأربعينات، مقسمة بين إقطاعيي المحافظة (بيت بشور– بيت الحامد– بيت الميقاتي– بيت رسلان- ....) ولكل منهم فلاحوه وأتباعه والأهم «زلمه»...
أحد الوجهاء في المنطقة دعا بعض الوجهاء ومن يعرفهم لوليمة بمناسبة دينية، وكان جدي من المدعوين، وأقاموا صلاة الجماعة، وفي نهاية الصلاة طلب الإمام من صاحب الدعوة إن كان يريد الدعاء لأحد يخصه كما تجري العادة.
فقال له: «ادعُ يا سيدي للآغا الفلاني الله يزيد مقامه ويعلي شأنه» فدعا له الشيخ...
فتقدم «زلمة» آغا آخر، وقبّل يد الإمام حانياً ظهره طالباً الدعاء للآغا الفلاني، فدعا له الشيخ..
وأصبح كل «زلمة» آغا يكرر العمل نفسه بطلب الدعاء لسيده..
لم يتمالك جدي أعصابه، فقام حانياً ظهره، مقبلاً يد الشيخ قائلاً: «يا سيدي... ادعو الله أن يخفينا نحن الفقراء عن وجه الأرض، من أجل سعادة هؤلاء الأفندية والآغوات»...
وكأن الشيخ ضاق ذرعاً من هؤلاء الفقراء «زلم» الاقطاع، ووجد في طلب جدي متنفساً لغضبه، قائلاً: «ولك يا ابني، لنفترض الله استجاب لدعوتي، وهفاكم انتو الفقراء عن وجه الدني، هدول الآغوية والأفندية على مين بدهم يعملوا آغوية وأفندية»؟؟