طفولة تعري بؤس السياسات
يروج لبضاعته على «بسطة صغيرة للبطاطا» أمامه، بصوت مرتفع مليء بالحماسة، حتى تكاد ترى احتقان أوردته وانتفاخ أوداجه، واحمرار سحنته ووجهه، بوسيلة الترويج الوحيدة المتوفرة التي تتمثل بالصراخ، في سوق قائم على المنافسة بهذه الوسيلة، بالإضافة ربما لوسائل أخرى تتمثل بالسعر والنوعية والمواصفة.
هو شاب بعمر الورود التي تفتحت قبل أوانها، ليخوض غمار معركة تأمين لقمة العيش الكريمة لأسرته، في ظل واقع اقتصادي ضاغطٍ لا يرحم، ومتطلبات واحتياجات معيشية أكبر من أن يقدر على تأمينها المخضرمون في السوق من كبار السن وأصحاب الباع فيه.
إعالة مفروضة!
خالد بعمر 15 عاماً فقط، نزح مع أهله من إحدى بلدات ريف دمشق منذ عدة أعوام، كما غيره من الكثيرين نتيجة الحرب والأزمة وتداعياتها الكبيرة والعميقة، وقد ترك مدرسته لينخرط في العمل تحت ضغط حاجة أسرته للمعيل، وذلك كون صحة والده لا تساعده على مزاولة أي عمل، علماً بأنه بعمر 40 عاماً، وذلك بسبب مرضٍ شديدٍ حال دون ذلك، مما جعل من هذا الشاب الصغير، المعيل الوحيد لأسرته، كونه الأكبر سناً بين أخوته، وقد أصبح مسؤولاً عنهم.
بعيداً عن مظهر الأوداج المنتفخة والأوردة المحتقنة، المرتبطة بالصراخ والترويج لبضاعته، تظهر معالم الوجه الشاب مع ابتسامة مليئة بعلائم الحياء والخجل المقترن بالوجنات المحمرة عند الحديث معه وعنه، كما يختفي صوته المرتفع لتسمع صوته الطبيعي المقترن ببحة واضحة كنتيجة ليومه المليء بالصراخ، والذي يخفي ربما أحد علامات أمراض هذه المهنة على الحنجرة والحبال الصوتية.
مسؤولية وحلم!
يتحدث خالد عن عمله في سوق الهال بكل فخر، لارتباطه بالمسؤولية التي حملها تجاه أسرته، ولا يجد نفسه بأنه حمل هذه المسؤولية مبكراً أو قبل أوانه، أو بأنها أكبر من عمره وإمكاناته، بحيث يبدو فعلاً أنه أكبر من عمره بحديثه، وأن هذه المسؤولية التي حملها منذ عدة أعوام قد صقلته وجعلت منه رجلاً صغيراً لم يتخلّ عن أحلامه وطموحاته.
غصة واضحة دون اعتراف عند خالد، بأنه اضطر لترك مدرسته عندما كان في الصف السابع، وقد أصبح عمره الآن يخوله للتقدم لامتحان الشهادة الإعدادية، لكنه لم يستطع أن يكمل دراسته، ولن يستطيع ذلك في ظل استمرار هذه الظروف الصعبة، التي تفرض عليه العمل وإعالة أسرته.
في مقابل ذلك، لم يخف خالد رغبته في التقدم لامتحان الشهادة الإعدادية، من خارج المدرسة مع الأحرار، معترفاً: أن ذلك يعتبر صعباً عليه الآن لكنه عازم ومصر على تحقيق هذه الرغبة والطموح، وهو ينتظر عسى أن تتحسن الظروف، ولو قليلاً، كي يتمكن من متابعة تعليمه يوماً ما، وقد أطلق وعداً على نفسه خلال الحديث: أنه سيحقق هذه الرغبة والحلم حال عودته وأسرته إلى بلدته في الريف القريب واستقرار أوضاعهم.
طفولة مستغلة!
الحديث مع خالد كان كثير الاختصار والاقتضاب، خاصة مع استمراره بعمليات الترويج لبضاعته صراخاً، بالإضافة لعمليات البيع أثناء الحديث، ليؤكد خالد مرة أخرى: أن أولويته في المسؤولية تجاه أسرته مقترنة بالعمل والجد والجهد فيه، وأن عدم استقطاب الزبائن أو فقدانهم يعني خسارة بالنسبة إليه، كما يعني عدم تمكنه من توفير بعض المتطلبات والاحتياجات اليومية لأهله.
الحديث المختصر والمقتضب مع خالد، لم نستطع من خلاله سبر غور أوجه الاستغلال التي يتعرض لها هو أو أقرانه في هذه السوق الكبيرة التي يهيمن عليها الكبار على مستوى الملاءةِ والخبرة، وهي لا بد كثيرة ومتعددة، بالرغم من علامات الرضى والتصالح مع الذات، التي كانت جلية وواضحة أثناء الحديث، الذي نحار في تقييمه بين الطفولة والرجولة.
فهل من استغلال أكبر وأعمق من أن تصبح قوة عمل الطفولة سلعة في سوق العمل الذي لا يرحم في هذه الظروف الصعبة والقاسية، بحيث لا يمكن أن تغلفها علامات الرضى كلها والتصالح مع الذات، خاصة وأنها فرضت فرضاً ولم تكن في حال من الأحوال اختياراً.
بؤس السياسات
العمل بالنسبة لأشباه خالد الكثر من العاملين في سوق الهال، كما غيره من أسواق العاصمة أو أسواق المدن الأخرى، هو نتيجة فرضت على هؤلاء من أجل تأمين إعالة أسرهم المتمثلة بالحد الأدنى لمتطلبات الحياة والمعيشة، في ظل واقع لا يرحم على إثر الحرب والأزمة وتداعياتها المتمثلة بالتشرد والنزوح والفقر والعوز، بالإضافة إلى الكثير من أوجه الاستغلال المباشرة وغير المباشرة!
هؤلاء، وإن ظهروا على أنهم على قدر حجم المسؤولية الملقاة على عاتقهم وتحملها، وقد أثبتوا ذلك، على حساب طفولتهم واستكمال تحصيلهم العلمي وأحلامهم الصغيرة وطموحاتهم، على النقيض من حال أقرانهم في مثل أعمارهم، وحقهم الطبيعي في هذه القضايا البسيطة، إلا أن ذلك يُظهر على الطرف المقابل، حجم القصور الكبير للدولة والغياب الواضح لدورها حتى على مستوى تأمين هذه الحقوق، رغم بساطتها كنتيجة طبيعية لمجمل السياسات المعمول بها من قبل الحكومة، والتي تظهر نتائجها السلبية على حساب هؤلاء ومن يمثلون من أوساط شعبية واسعة، ما زالت هذه السياسات تسحقهم وتهمشهم وتهشمهم وتدفعهم للمزيد من الفقر يوماً بعد آخر، على حساب حقهم ومستقبلهم وأفقهم وطموحاتهم وحياتهم الكريمة.
فبؤس هؤلاء من بؤس تلك السياسات، بحيث يبدو خالد بما يمثله من مسؤولية ومواظبة على حساب حقوقه وأحلامه، أحد نماذج تعرية هذه السياسات البائسة التي تئد الورود وتدفنها قبل تفتحها!