الجنسية التركية بازار سياسي جديد
كثر الحديث مؤخراً عن وضع اللاجئين السوريين في تركيا، ناحية منح الجنسية من جهة، وناحية التجنيد للعمل الميداني العسكري من جهة أخرى، عبر ثنائية تضخيم إعلامي على الجانبين كليهما، لا يخلو أي منهما عن بعد سياسي، يتم استثماره من جديد على حساب مأساة السوريين في بازارات اللعبة السياسية التركية والدولية.
حسب البيانات التقديرية، فإن تركيا تؤوي ما يقارب الـ 2.7 مليون لاجئ سوري على أراضيها، حيث اضطر هؤلاء للجوء إلى تركيا هرباً من واقع الحرب والأزمة العاصفة بالبلاد طيلة السنوات الماضية.
التجنيس ليس خياراً للسوريين
من المعلوم بأن غالبية اللاجئين السوريين، يعتبرون إقامتهم بالداخل التركي مؤقتة وغير دائمة، فالغالبية منهم تتتظر الظروف المناسبة للعودة إلى مدنهم وبلداتهم وبيوتهم، والمقترنة بانتهاء الحرب واستقرار الأوضاع في الداخل السوري، فيما البعض القليل ما زال ينتظر الخروج من تركيا إلى أوربا، التي يمكن أن تعتبر بالنسبة لهم مستقراً وبديلاً قد يطول أو يقصر، وتبقى القلة القليلة المتبقية، والتي ربما هي من لديها الرغبة باستمرار بقائها في الداخل التركي، لأسباب شخصية ومحددة غالباً.
على ذلك فإن موضوع التجنيس أو موضوع الخدمة بالميدان العسكري ليست بواردة التفكير لدى غالبية اللاجئين السوريين، ولو بالخيال، حيث أن الخيار الأول المتمثل بالجنسية يقضي بموجب القانون، أن يتخلى طالب الجنسية عن جنسيته الأصلية، وهو ليس بوارد بحال من الأحوال، لدى الغالبية من اللاجئين السوريين الراغبين بالعودة إلى مدنهم وبلداتهم، فيما الخيار الثاني، المتمثل بالخدمة بالميدان العسكري لا يمكن قبولهم به أيضاً، خاصة وأنهم هربوا أصلاً من واقع الحرب خشية التورط بها، سواء بالشكل المباشر على مستوى الأعمال القتالية، أو بشكل غير مباشر كضحايا متوقعين جراءها، وبالتالي لن يكون هذا الخيار بحال من الأحوال مقبولاً لدى هؤلاء.
ولكن ما الجديد الطارئ الذي استدعى أن يتم الترويج لهذه المقولات من قبل الجانب التركي مؤخراً؟.
جنسية بالقانون
لعل الجديد هو: أن غالبية اللاجئين السوريين في تركيا قد مضى على تواجدهم على الأراضي التركية خمسة أعوام متواصلة، وهذا يعتبر من أهم الشروط للمطالبة في منح الجنسية بموجب القانون التركي المعني بهذا الشأن، بالإضافة طبعاً لشروط عديدة أخرى مرتبطة بهذا الجانب.
أما لماذا قد يرغب بعض السوريين بالمطالبة بهذا الحق الذي أصبح مجازاً بالنسبة إليهم قانوناً، وهم بالأصل ليس لديهم الرغبة بالتجنيس والإقامة الدائمة بتركيا، فذلك له أسباب عديدة، أهمها: متعلق بالجانب الاقتصادي المعيشي وفرص العمل، والتخلص من الاستغلال الذي عانوا منه طيلة السنوات الماضية، والاستفادة من عامل الزمن أثناء الفترة اللازمة للحصول على الجنسية، علّها تحمل لهم جديداً على مستوى انفراج الأزمة والحرب في الداخل السوري، ليعودوا ويستقروا في بلدهم وبين أهلم وناسهم.
العمل بالتوازي على محورين
الجانب الرسمي التركي من طرفه، لم يعلن بأن السوريين بات بإمكانهم المطالبة بحق الجنسية قانوناً، بعد مضي أكثر من خمسة أعوام على تواجد الغالبية منهم على الأراضي التركية، بل تمت صياغة الأمر وكأنه مِنّة جديدة يَمنّ بها الرئيس التركي وحكومتة على السوريين، كما هي فرصة لتسجيل مواقف سياسية، على المستوى المحلي بالنسبة للناخبين، وعلى المستوى الاقليمي والدولي بالنسبة لحلفائه وأعدائه.
حيث سبق أن سجل الرئيس التركي موقفاً بهذا الاتجاه خلال العام الماضي، وأضاف إليه موقفاً آخر مطلع هذا العام، عبر إعلانه عن السعي لتجنيس بعض السوريين والعراقيين المتواجدين على الأراضي التركية، مع عدم إغفاله بأن تركيا ستعمل على تجنيس أصحاب الكفاءات العلمية والفنية والتقنية فقط، بتوجيه غير مباشر على الجانب العملي والتنفيذي، من أجل إيجاد العراقيل المناسبة أمام غير هؤلاء، في حال رغب أحدهم بالحصول على الجنسية، خاصة وأن القانون المعني بهذا الشأن فيه الكثير من الجوانب التي يمكن أن تكون معرقلة أمام الراغبين بالحصول على الجنسية ممن لا يملكون الشروط المطلوبة تنفيذاً للإعلان الرئاسي أعلاه، والعقلية «العصملية» كما هو معروف عنها هي الأقدر على استنفاذ الخيارات أمام هؤلاء بالقانون وعبر اللوائح المقرة.
وقد ترافق هذا الإعلان والموقف السياسي الرسمي التركي مع حملة دعائية غير رسمية أخذت الطابع الشعبي التعبوي عبر وسائل الإعلام وصفحات التواصل، تمثلت بحملة تحت عنوان “جندوهم ليحاربوا من أجل سورية”، لجمع التواقيع على عريضة تطالب رئاسة الأركان العامة للجيش التركي بتجنيد السوريين المتواجدين داخل الأراضي التركية للقتال في سورية برفقة مجنديهم، وذلك أواخر العام الماضي ومطلع هذا العام، في نمط تعبوي تجاه اللاجئين لا يخلو من العنصرية المبطنة، والتي بدأ الترويج لها والتعبئة بها والعمل عليها.
ترويج وتضخيم
كما ترافق ذلك مع بعض الحديث عن رسائل نصية عبر أجهزة الاتصال، تلقاها بعض اللاجئين من أصحاب الكفاءات، أطباء ومعلمين ومهندسين ومستثمرين وغيرهم، من أجل منحهم الجنسية، مع الكثير من الترويج والتضخيم الإعلامي بهذا الشأن، حيث تم استنطاق البعض من هؤلاء عبر وسائل الاعلام عما جرى معهم أثناء اللقاءات الرسمية، وما هي الأسئلة والاستفسارات والإجراءات والثبوتيات التي طُلبت منهم، من أجل الحصول على الجنسية، في حملة مفادها التعمية على الحق القانوني العام، واقتصاره على القلة والنخبة المنتقاة بعناية خاصة.
علماً بأن الكلام الرسمي بهذا الصدد، سبق وأن صرح بأن الحكومة التركية ستعتزم تجنيس بضعة عشرات الآلاف من جملة اللاجئين على أراضيها فقط، في إغلاق رسمي بوجه من قد يفكر بالحصول على الجنسية التركية، وكأنها ميزة المزايا.
إلى المزيد من البؤس
هذا وذاك من أنماط المتاجرة بمصير اللاجئين السوريين داخل الأراضي التركية مؤخراً، جعل من واقع هؤلاء أكثر بؤساً، حيث أصيب بالإحباط كل من كان يرغب بالحصول على الجنسية التركية، من أجل تحسين واقعه الحياتي المعاشي، ولو بشكل مؤقت ريثما تستقر الأوضاع بالداخل السوري وتضع الحرب أوزارها، كما تم زرع الرعب في قلوب البقية المتبقية من إمكانية تحويل الحملة الدعائية عن التجنيد إلى واقع ملموس، وهم بالأصل هربوا من واقع الحرب كي لا يتورطوا فيها، تاركين خلفهم ممتلكاتهم كلها، غير عابئين بها أمام هذا الخيار البائس، فكيف بأن يتم إجبارهم عليه!.
مما أدى بالنتيجة العملية إلى أن الكثير من اللاجئين السوريين، وبعد أن ظنوا أن باستطاعتهم الحصول على بعض الاستقرار بعيداً عن الاتجار بمأساتهم، وخاصة على مستوى فرص العمل الرسمية وتوفرها، باتوا مضطرين للقبول بشروط العمل الأسود، وغير القانوني المجحف بحقهم، والمستهلك لقواهم وعمرهم مجدداً، وذلك بتحييد غير رسمي وغير مباشر لقانون العمل، الذي صدر مطلع العام الماضي، بشأن تشغيل اللاجئين (وأيضاً كان للإتجار السياسي)، بعد أن تعالت أصوات بعض النخب التجارية والصناعية والسياسية التركية بوجه هذا القانون، بذريعة صيانة حقوق العمالة التركية.
لا تعاطف ولا إنسانية ولا قانون
لتتضح الصورة بشكلها النهائي، وهي: أن اللاجئين ما كانوا ولم يكونوا ولن يكونوا إلا ورقة بأيدي السياسة التركية في محفل الصراعات والتوازنات المحلية والدولية، تضغط بها هنا أو تستجدي هناك، والكلام كله عن التعاطف الإنساني وغيره ما هو إلا ذر للرماد في العيون، ولو كان ذلك على حساب القانون التركي نفسه، التي تدعي الحكومة والرئاسة التركية بأنها تصونه وتعمل به.
على الطرف المقابل، فإن اللاجئين السوريين في تركيا على أحر من الجمر من أجل إنهاء الحرب الدائرة في بلدهم، عبر الحل السياسي المرتقب، كي يعودوا ويستقروا في مدنهم وبلداتهم وبيوتهم، وهو الحلم الذي يراودهم جميعاً.
ولعل جملة مطالبهم بواقعهم الحالي المتمثل باللجوء في الداخل التركي تتلخص بالتوقف عن استثمار مأساتهم في بازارات اللعب السياسية التركية والدولية، وبأن يتم التعامل معهم وفقاً للقوانين الدولية والتركية.
وجُلّ ما يصبون إليه هي ورقة الإقامة المؤقتة التي تجيز لهم إمكانية العمل المشروع، ليسدوا رمقهم ويحفظوا كرامتهم، بعيداً عن أوجه الاستغلال والروتين والعقلية «العصملية» التي تزيد من واقع بؤسهم وشقائهم، وبعيداً عن الحديث كله عن الجنسية والتجنيد، المرفوضين جملة وتفصيلاً من قبل غالبيتهم.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 793