مطبات: اللصوص.. بالضبط اللصوص
أقسى ما يمر علينا، ولم تكن الثمانينيات بحصارها الطويل الفظ بمثل أيام الوجع الحالي، ويرتجف الجد مع ذكرياته عن علب المحارم، وعبوات السمن التي اصطف لأجلها السوريون بدور طويل لا ينتهي، ويسترسل الجد عن ألمه الآني هذه الأيام مغمساً بالذل والابتزاز، وأنت تطلب حقك في الدفء الذي لا تجده يباغتك مرتجف آخر بأن لديه ما تبحث ولكن ثمنه كبير.
قصة الجد في انتظار طويل أمام محطة الوقود لأكثر من نصف نهار، وعندما وضع عامل المحطة صنبور المازوت في مكانه معلناً انتهاء الخزان همس في أذنه أحد الواقفين في الطابور: (بدك مازوت)، وانتابت الرجل صدمة بنكهة مختلفة، وهو الذي اعتاد على الصدمات، وألفها حتى لا تكاد تميزها من ردوده العادية، ودون تردد وكمجنون صرخ: (بدي).. نعم أريد، وما الذي يجعلني إذاً أنتظر وأتحمل هذا الهواء اللعين.
خرج الرجلان إلى بيت الصادم، وفتح المنقذ باب مستودع متسخ، وخرجت رائحة المازوت النفاذة وأصابت صاحبنا بالدفء، وبدأ الرجل ينظر إلى الجد متفحصاً إياه كأنه يشاهده للمرة الأولى، وفجأة سأله ماذا ستدفع ثمن (البيدون)، وببساطة بلهاء أراد الجد أن يزيد قليلاً لأنه اعتقد أن الرجل يعطيه من حصة بيته، ومن دون تلكؤ وبفرح: سأدفع لك 400 ليرة ألا يكفي أنك أعطيتني من دفء أبنائك.
700 ليرة سعر العشرين ليتراً، وأنا أنتظر مثلك طوال النهار، وأعيش بهذه الطريقة، وأنت تعرف الحياة صعبة، ولم يبق عندي سوى 1000 لتر، وأنت ترى أن المازوت قليل والناس بحاجة، وهذا الشتاء لعين وصعب.
لم تمر عليه صدمة كهذه، ولكنه وافق بعد أن شرح له الرجل كيف يأتي بالمازوت من جميع المحطات، وأن ليله بنهاره يتصل بهذا السائل السحري، ولكن بينه وبين نفسه ظل يردد 700 ليرة، وفي البيت ينظر إلى قطرات المازوت المتساقطة إلى قلب المدفأة ويعدها ليرة.. ليرة.
انتهازيو الأزمات مرة أخرى، وبمستويات مختلفة، والرجل اللص هو آخر الحلقة المتماسكة بعزم، ويقسم مواطن أنه وبعد أكثر من ساعتين من الانتظار ريثما أفرغ صهريج المازوت حمولته، وبدأ العامل بملء الكالونات لمئات المنتظرين خرج صاحب المحطة ليقول لكل هؤلاء (خلص) المازوت.
يعود الرجل ليقسم أنه لم يفرغ من الحمولة أكثر من 1500 ليتر، وأن الوجوم والخيبة عما الوجوه، وصاح بعضهم، وضرب آخرون يداً بيد، ولكي تخف حالة الهياج خرج الشرطي إليهم: غداً سيأتي صهريج جديد.
في المساء يبدأ اللصوص الأكثر خبرة دورانهم في صهاريج صغيرة، ويتصاعد مؤشر (الأوكازيون)، والليتر يطير إلى 30 ليرة، ويتحدث الموزعون عن المخاطرة في التوزيع الليلي، والعصابات التي يمكن أن تعترضهم، والشرطة التي تحاسبهم، وأخيراً ضميرهم الذي لا ينام.
يتهامس الموزع مع الشرطي، ويدفعه في لعبة العارف بخصمه، وفي غرفة صاحب المحطة ضحكات تعلو وتعلو حد الشهقات، وفي زحمة منتظري دور المختار، والمسجلين في قوائم توزيع الدفء بالعدل يتبادل المواطنون نظرات بشيفرة واحدة، ويكاد البؤبؤ يقول للبؤبؤ أنا أعرفهم، وهؤلاء يمارسون اقتسامنا في هذه اللحظات الباردة.
الأيام القاسية تلون سكينها الباردة على أعناقنا، ومن بيننا يخرج اليوم من يشحذها دون ذبح، وتكاد تظن أن الدماء تخرج فتصيح لا، وتسأل مصدوماً أفي مثل هذه الأيام يبقى اللصوص لصوصاً، ولا تردعهم حالة القهر العامة، والغلاء الذي ينهب الجيوب، والحصار الذي يفتك بالاقتصاد، و فوق كل هذا الوطن الذي لا يحتمل الآن من يجرحه بظلم أبنائه بيد أبنائه.
والآن وهنا لم تتغير الحكاية، فاللصوص بالضبط هم اللصوص.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 542