حريق شطحة يكشف الغطاء عن الفساد الأهالي: ابحثوا في مناقصات الفحم ستجدون الفاعل!!
أسفل الجبال الساحلية تقع قرية شطحة التي تتبع إدارياً لسهول الغاب الجميلة والمنسية في الوقت ذاته، وفوق تلك القرية وعلى مساحة آلاف من الدونمات تمتد غابات كثيفة من الصنوبر وشجيرات السنديان العالية وشجر الأرز المعمر، التي يعود عمرها لمئات السنين، مشكلة بذلك لوحات طبيعة عذراء تسمع منها موسيقا روحية تعزفها المياه المتناثرة من ينابيع البقروق وشطحة الفوقا والخفسة ونبع الوادي،
والتي شكلت بدورها للتو منطقة سياحية يرتادها الزوار في فصل الصيف لجوها المعتدل ومناظرها الخلابة، خاصة منطقة وادي السرجان التي تعد من المناطق الأثرية الهامة، حيث يوجد هناك شير صخري نحت عليه بشكل بارز صورة لآلهة سورية قديمة، أما في فصل الشتاء فيأتي الزوار للاستمتاع بمنظر تساقط الثلوج. لكن كل ذلك يصبح افتراضاً ضرورياً يميله نزوح مصالح الأشباح في تغيير معالم الطبيعة ذاتها بهدف زيادة الثروة، فتستبدل لوحات خضراء جميلة تشبه تلك اللوحات الموعودة للمؤمنين في الجنة بلوحات أخرى سوداء متفحمة لا تختلف كثيراً عن صور جهنم وبئس المصير، ذاكرة جماعية راهنة تمحى وتستبدل بذاكرة أخرى توحي بقاتمة الآتي من الأيام!؟!
فرحة لم تكتمل
مساء اليوم الخامس والعشرين من الشهر الفائت، كان الأهالي في قرية شطحة كما في القرى المجاورة يحتفلون بأحد أعيادهم الدينية بالقرب من تلك الطبيعة الخلابة والساحرة، لكن الفرحة لم تكتمل، حين داهم أمسياتهم الجميلة حريق بدا بسيطاً في البداية، ليصبح بعد ذلك حريقاً مهولاً استمر طيلة خمسة أيام متواصلة دون أن تسعف جهود الطوارىء في إخمادها، لتلتهم آلاف الشجيرات على مساحة يقدرها الأهالي بأكثر من عشر آلاف دونم، مسفراً بذلك عن أضرار مادية قدرها وزير الزراعة لاحقاً بـ (25) مليون ليرة سورية، بينما الفاعل بقي مغيباً وربما سيبقى مغيباً كما حدث في الحرائق السابقة، ذلك بعد أن تحولت أغلب الأماكن في الغاب إلى أماكن موبوءة بسلطة الأشباح التي تسرق أحلام المواطنين وتقد مضاجعهم وتتحكم بلقمة عيشهم بدءاً من بيع مياه الدولة عبر وسطاء إلى الفلاحين وانتهاءً بالمستنقعات التي ترسل الأوبئة والأمراض، صورة التقطناها من أعين المواطنين قبل ألسنتهم التي قالت: فتشوا عن مناقصات الفحم ستجدون الفاعل، وابحثوا في إهمال مؤسسات الدولة وفسادها ستجدون الفاعل.
قاسيون اتجهت إلى مكان الحدث والتقت عدداً من المعنيين وشهود العيان، في محاولة منها لتقديم صورة أخرى للحدث تختلف نوعاً ما عن تلك الصورة التي قدمتها وسائل الإعلام الرسمية، صورة لم تخترعها من عتبات الخيال، بل من شهادات أشخاص كانوا في موقع الحدث وعلى صلة بخفايا عالم الأشباح.
غياب عناصر المراقبة
يقول المحامي (س.د) من أهالي المنطقة: «كنت على سطح منزلي ذلك المساء، وشاهدت ضوءاً أحمراً استمر لمدة ساعة، تبين لي بعد ذلك إنه حريق، لكنه كان بسيطاً، ولو كنت أعلم بأن ذلك الضوء هو حريق، لركبت الدراجة النارية وربما استطعت إطفاء الحريق، لكن السؤال الذي لا نجد إجابة له حتى الآن، هو أين كانت نقاط المراقبة في المنطقة والتي هي مخصصة لمراقبة كامل الجانب الشرقي من الطريق، مع العلم أنه يوجد نقطة مراقبة كانت لا تبتعد عن مكان اشتعال الحريق سوى (30) متر فقط، فلماذا لم يلاحظوا الحريق، ولم يقوموا بإطفائه عندما كان يمكن السيطرة عليه؟ بعد ست ساعات أصبح الحريق ضخماً، وانتشر بسرعة لأن ورق الأرز سريع الاشتعال، إضافة إلى تراكم الأغصان المقلمة المتروكة في المنطقة بسبب الإهمال.
وعن تفاصيل الحريق يقول المحامي بأن «الحريق من جهة الجنوب امتد حتى وصل لنقطة كان فيها حريق سابق ثم توقف هناك، أما في المنطقة الشمالية فقد ظل الحريق متقداً وزاحفاً طيلة أربعة أيام، هم قالوا أنهم لم يستطيعوا أن يصلوا إلى الحريق، لأن المنطقة شديدة الانحدار، لكن هذا الكلام هم يتحملون مسؤوليته حيث يوجد في أغلب المنطقة طرق حراجية (شاهدناها أثناء وجودنا) لكن هذه الطرق كانت معطلة بسبب الأمطار والسيول في فصل الشتاء، ولم تجر لها عملية الصيانة بعد الشتاء، رغم أن هناك ميزانيات سنوية ترصد لأجل ذلك، وهذا الاستهتار والإهمال ساهم إلى حد بعيد في إطالة أمد الحريق، لأن عامل الزمن مهم والتجهيزات المسبقة هامة في موضوع السيطرة على الحريق؟ وبالتالي هم لم يستطيعوا السيطرة على الحريق لأنهم كانوا غير موجودين على الساحة أساساً، فالزراعة تملك ما تكفي من الآليات وعناصر الإطفاء ونقاط الحراسة وأبراج المراقبة، لكن أين كان كل هؤلاء؟ وماذا عملوا؟»
وما يبعث على الدهشة والاستغراب أكثر برأي المحامي «هو استمرار الحريق في المنطقة لمدة أربعة أيام، إذ أنه بعيداً عن نظرية الجهات الرسمية في المنطقة والتي فسرت استمرار الحريق بشدة الانحدار، يوجد طريق شاقولي معبد يصل الغاب باللاذقية (شاهدناه أثناء جولتنا) والحريق في اليوم الثاني والثالث كان بعيداً عن هذا الطريقبحدود (2) كم، وكان يمكن بواسطة الإمكانات الموجودة وقف هذا الحريق قبل أن يصل إلى الطريق، حيث كان يوجد في اليوم الثاني والثالث جيش من الإطفائيين القادمين من حماة وحلب وإدلب إضافة إلى مساعدة الطيران، ولو أن هذه الجيوش وقفت على خط واحد على طول الطريق لأمكن منع الحريق من تجاوز الطريق، لكن الجهود كانت ضعيفة وغير منظمة، والقدر هو الذي أوقف الحريق وليست جهود الدولة».
وعندما سألنا المحامي عن أسباب الحريق قال لنا: «الإهمال والتقصير هو السبب الرئيسي للحريق فالأموال التي صرفت على إطفاء الحريق كان ربعها تكفي لصيانة الطرق الحراجية وبالتالي سهولة الوصول إلى أية نقطة يمكن أن يندلع فيها الحريق، أما الفاعل المباشر فيمكن بسهولة معرفته عند إجراء مناقصات الفحم، لكن هذا الأمر يحتاج إلى شفافية في التحقيق وعدم تدخل الرؤوس الكبيرة التي لها مصلحة مباشرة بموضوع الحريق».
أيادي خفية
في علم التحقيق الجنائي، عندما تقع جريمة ويكون الفاعل مجهولاً، يتم البحث عمن له مصلحة بموضوع الجريمة، لأن ذلك يمكن أن يقود إلى معرفة الفاعل سواءً كان هذا الفاعل منفذاً مباشراً أو مشاركاً أو مخططاً أو كان له علم بوقوع الجريمة لكنه تغاض عنها، وفي محاولتنا للإجابة على هذا السؤال التقينا بأحد المسؤولين في تلك المنطقة في محاولة لفك الغاز الجريمة.
يقول المسؤول (أ): «الحرائق التي تحدث الآن غريبة وتستدعي الشبهة، ودائماً تسجل هذه الحرائق ضد مجهول، وهذا يعني أن التحقيق غالباً لا يكون جدياً؟ ففي السابق كان الأهالي يحافظون بأنفسهم على الغابات، ولم يكن أحد يسمع بوجود حرائق، ولكن منذ خمس سنوات «استلم مديرية الزراعة خلال هذه الفترة وحتى الآن السيد أحمد معلا» أصبحنا دائماً نسمع بوجود حرائق وفي ذات المنطقة، وتحليلي الشخصي للمسألة هو ظهور تجارة الفحم إضافة إلى جانب سياحي يتمثل في صرف النظر عن هذه المنطقة سياحياً لصالح منطقة أخرى، يدير فيها بعض المسؤولين من تحت الطاولة مقاصف سياحية ضخمة، لكن السؤال الهام لماذا لا تحدث الحرائق في تلك المنطقة «الغربية» رغم أنها مليئة بالسكان والسياح.؟ويجيب المسؤول (أ) عن سؤاله بالقول «لأن هناك اهتمام أكبر بتلك المنطقة، أي أنها مدعومة أكثر، سواء في الخدمات أو التوظيف، وعندما نشطت السياحة قليلاً في هذه المنطقة حاول البعض وقف ذلك بحرق الغابات.؟
ويضيف المسؤول (أ) « بأن هناك سبباً آخر هو التناحر السياسي بين المسؤولين في المنطقة، والشاطر يفشل الآخر، فالواقع يدل على أن هناك أيادي تعمل، فقبل هذه الفترة لم يكن الوضع هكذا، وفي الوقت ذاته لا توجد حرائق في المناطق الأخرى، قد توجد حرائق طالما توجد غابات، لكن كثافة هذه الحرائق ووقوعها دائماً في ذات المنطقة وخلال فترة محددة، يستدعي الكثير من إشارات الاستفهام، وخاصة وأن المنطقة تتعرض لإهمال شديد وواضح منذ خمس سنوات؟ فمثلاً يتم تعيين العشرات من العمال على الورق، لكن غالبيتهم يعملون في المقاصف التي تعود إلى هذا المسؤول أو ذاك أو أنهم قاعدون في بيوتهم «حسب الدعم»، وفي أحد المرات شاهدتُ في أحد المقاصف صديقاً لي كان يعمل (كرسوناً) هناك، وعندما سألته مستغرباً أجاب «بأنه موظف مثبت في الزراعة لكن لظروف معينة أعمل هنا؟» كما أن هناك حديث واسع من بعض العاملين في الزراعة على أن الآليات في الزراعة تعمل لحساب جهات خاصة، وكل هذه الأمور إذا ما طالها التحقيق يمكن أن تساعد على تحديد هوية المسؤولين عن الحرائق في هذه المنطقة».
وعن ملاحظات المسؤول (أ)أثناء الحريق قال «بإن الحريق بدأ من الجهة العليا، والناس كانوا في الأعياد، لكن الإطفاء تأخر في الوصول، بينما الأهالي قاموا بحراسة منازلهم وإجلاء الممتلكات، ثم أتت بعد ذلك الآليات التي تعمل والتي لا تعمل مما سبب ذلك كركبة إضافية، وعندما سألناه عن قدوم الآليات التي لا تعمل، قال لنا بأن الغاية من ذلك هي الصرفيات... وفي اليوم الثاني عند الساعة الواحدة ظهراً تم إخماد الحريق، وكان المطلوب تبريد الجمر، لكن المسؤولون ربما جاعوا وغادروا المنطقة، وعندما ذهب المسؤولون قام العمال بترك العمل، ومن المعروف أن الرياح تتحرك في هذه المنطقة بعد الظهر، وكان هناك جمر يحتاج إلى تبريد، لكنهم تركوا الأعمال، وعندما هبت الرياح بعد الظهر، اندلع الحريق من جديد ليستمر ثلاثة أيام إضافية التهم خلالها مساحات واسعة من الغابة. والمستغرب أكثر هو تجاوز الحريق الطريق المعبد الذي يصل الغاب بالساحل، فحجة المسؤولين بأن المنطقة وعرة وشديدة الانحدار لم تكن مقنعة في هذا الجزء من الحريق؟
ويقدر المسؤول (أ)المساحة المحروقة بأكثر من (10) آلاف دونم، في حين أن الرقم الرسمي هو (1350) دونم فقط؟
غابة بسيارة إطفاء واحدة
غالباً ما تكون للحرائق نتائج في غاية السلبية، لكن لكل ضارة نافعة كما يقال، فحريق شطحة كشف النقاب عن مدى الاستهتار الموجود لدى دوائر الدولة هناك، فرغم وجود غابة تمتد على آلاف الدونمات في منطقة شطحة، إلا أنه لا يوجد في المنطقة المذكورة سوى سيارة إطفاء قديمة كانت بالأساس صهريج تم تحويله من قبل الفنيين إلى سيارة إطفاء؟
المسؤول (ب) قال لنا: «يوجد في الزراعة مديرية اسمها الموارد الطبيعية وهي المسؤولة على الحراج، ويوجد ضمن هذه المديرية دوائر مختلفة ومراكز للإطفاء، منها مركز شطحة ومركز البارد، لكن أغلب العمال في هذه المراكز هم من الموسميون باستثناء مركز شطحة «حيث يوجد عاملان مثبتان»، لكن المشكلة هي أن الآليات ليست بالمستوى المطلوب، وإمكانيات مديرية الزراعة ليست بمستوى حرائق من هذا النوع، فأغلب سيارات الإطفاء هي صهاريج تم تحويلها إلى سيارات إطفاء، كما أن العديد من الإطفائيات القادمة من المحافظات الأخرى كانت غير محملة بالماء، رغم أنه في قانون الحراج لا يجوز لأي سيارة إطفاء أن تكون غير ممتلئة، على الأقل يجب أن يكون أكثر من 70% ممتلىء، إضافة إلى أنه في السابق تم إقامة خطوط للنار في منطقة الغابات، لكن منطقة شطحة حدث فيها بعض التقصير، ولو تم تدارك هذا التقصير مسبقاً لكنا وفرنا على حالنا الكثير من المتاعب والأموال، لأن أهم نقطة في موضوع الحرائق هي التجهيزات المسبقة، واتخاذ الإجراءات الكافية قبل حدوث الحريق».
والغريب برأي المسؤول (ب) «إن النار تمت السيطرة عليها في اليوم الثاني وقالوا للمحافظ بأن الأمر انتهى، وبعد أن غادر المحافظ بساعة واحدة فقط اندلع الحريق من جديد، لأن المطلوب كان تبريد الحريق قبل تركه للرياح التي هبت بعد الظهر في أكواز الصنوبر الملتهبة، فأدى ذلك إلى حرق مساحات إضافية كان يمكن تجاوزها لو كان هناك تخطيط علمي في مكافحة الحريق».
نقطة نظام
(م.ت) يقع منزله في قرية شطحة وقد استولى الحريق على (140) شجرة زيتون تعود له، وأشار هذا الشاهد إلى نقطة هامة، يمكن أن يستفيد منها التحقيق الجنائي، ففي مثل ذلك اليوم (25/08) يحتفل أبناء المنطقة بأحد أعيادهم، وعادة كان المدراء السابقون للحراج يقومون بتبديل عناصر الحراسة والمراقبة الذين يحتفلون بهذا العيد بعناصر أخرى، لكن المدير الحالي للحراج لم يقم بتبديل العناصر هذه المرة، فقام العناصر بالهروب من مخافرهم. ولو كان العناصر موجودون في مخافرهم لاستطاعوا إخماد الحريق بسهولة، خاصة وأن هناك نقطة حراسة لم تكن تبتعد عن مكان الحريق سوى (30) متر فقط، وعندما سألناه عن وجود أي سيارة بالقرب من مكان الحريق أجابنا بأنه شاهد سيارة كانت واقفة لمدة (10) دقائق بعد اندلاع الحريق ثم ذهبت، ويمكن أن تكون لها علاقة بالحريق.
وعن جهود الإطفائيين أثناء الحريق قال الشاهد « بأن الجهود كانت ضعيفة، حتى أن إطفائيات حماة وصلت قبل أن تصل إطفائيات المنطقة، وإحدى هذه الإطفائيات أتت بدون عمال، وأخرى اشترطت علينا أن نمسك بخرطوم الإطفائية وأن نلمه بعد الانتهاء مقابل أن تقوم بإطفاء الحريق المجاور للمساكن؟
مضيفاً بأن «الدولة كلها كانت موجودة، إلا أن الإهمال كان واضحاً، حيث كان يكفي في البداية سيارة إطفاء واحدة لإطفاء الحريق لو أنها وصلت بالوقت المناسب، لكن كان هناك سوء تنظيم والجنود كانوا يتقاتلون على علب السردين.؟»
من شهادات الأهالي في الغاب، يمكن بشكل واضح تلمس الأسباب المباشرة للحرائق التي تحدث هناك، أسباب يتعلق بالفساد والمحسوبيات والتقصير المتعمد، وربما أحد أوجه الاعتراف بهذا التقصير هو أن الجهات المعنية قامت فور الانتهاء من الحريق بشق طريق معبد في المنطقة التي تعرضت للحريق، ولو أن هذا الأمر تم قبل اندلاع الحريق لأمكن السيطرة عليه بأسرع وقت مكن.
على هامش الحريق
- بينما كان العمال والجنود أثناء الحريق يتقاتلون على علب السردين، طلب المحافظ من أحدالمسؤولين أن يجلبوا له الموز«صحة وعافية».
- بعد الانتهاء من جولتنا هناك وردنا اتصال من أحد الأصدقاء بأن الأمن كان مغتاظاً من الزيارة ووعد بمعاقبة كل من زودنا بالمعلومات. وحرصاً منا على من زودنابالمعلومات قمنا بتبديل أسماء الأشخاص بأحرف ابجدية.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 281