دروس خاصة جداً..

الصفحة الإعلانية التي باتت تمثل بورصة سوق العمل في مدينة دمشق، تعج بمئات العروض والإعلانات، لمدرسين وأصحاب شهادات وإجازات في مختلف الفروع والاختصاصات، يعرضون عبر هذه الصحف خدماتهم التدريسية وأسعارهم المنافسة، كذلك أسوار المدارس والجامعات، التي تناثرت على جدرانها العروض نفسها، بحيث اصبح دخول الطالب السوري إلى داخل تلك الأسوار، متوقفاً على رقم الهاتف الذي سيطلبه، إذ أن قدميه الصغيرتين لن تؤهلاه للقفز فوق السور، كما يفعل لاعبو الجمباز العالميون.

وإيمان الطالب بقدرته على اجتياز مرحلة دراسية، يقرن  عادة بإيمانه بطاقة المدرس الخصوصي (الذي لا يعمل على البنزين)، كذلك بالسعر الذي يفرضه ذاك المدرس ، ليضمن لطالبه بضعاً من العلامات الإضافية المحددة لمصير الطالب، ولاسيما أن بعض الطلاب، لاحظوا ارتفاع معدل الفروع والاختصاصات في المفاضلة الأخيرة، المتناسب طرداً مع ارتفاع أسعار البنزين في سوق دمشق!!

وظاهرة الدروس الخصوصية، ليست الظاهرة بعينها، ولو أن كثيراً من الطلاب قد لجأوا إليها أو سيلجأون في مستقبلهم الحافل بالمفاجأت.

ولكن ما يثير التساؤل أكثر من ذي قبل، هو العدد المتزايد لأولئك المدرسين والطلاب، على الرغم من أن المدرس الذي يدرس طالباً في مدرسة ما، يدرس طالباً آخر في منزله. من السهل ربط ذلك بالظروف المعيشية لأساتذة المدارس، في المؤسسات التربوية.

لكن ما الذي يقدمه المدرس في البيت، ولا يستطيع تقديمه في المدرسة؟ ثم ما الذي تقدمه المدرسة ليلجأ الطالب إلى مدرس خاص؟

اغلبية الطلاب في مدار حديثهم عن مادة أو منهاج يدرسها أستاذهم في مدرستهم، يكون محور الاتهام متعلقاً بالمادة نفسها، فأحدهم يصفها بـ(الجافة) والآخر بـ(المملة) والثالث بـ (القديمة) حتى أن طالباً إعدادياً أبدى شكوكه حول مادة يدرسها، قائلاً لنا أن مؤلف المادة المذكورة قد أعدها على ضوء الشمعة، قبيل اختراع صديقه أديسون لشيء يدعى الكهرباء بقليل من السنوات..

ولعل أكثر ما يلاحظ، في الحديث عن هذه الظاهرة، انتشار المعاهد الخاصة التي تعتبر مؤسسات تربوية غير حكومية (إذ أن أغلبها لم ينل التراخيص حتى اليوم)، وهي غالباً ما تكون بيوتاً سكنية قديمة، أو مستحدثة، لا تتوافر فيها شروط الوحدة التربوية المتكاملة، كما لا نجد اعترافاً رسمياً من المعنيين بالعملية التربوية، رغم انتشارها الواسع في أحياء دمشق وضواحيها.

فأغلب الطلاب الذين تعينهم ظروفهم المادية على اللجوء إلى هذه المعاهد، لا يترددون في ترك المدرسة، لتقديم الشهادة الثانوية على وجه خاص بكافة فروعها فيها، إذ أنهم وحسب تعبير (مهران.خ ـ طالب ثانوي) يجدون المنهاج أكثر مرونة في هذه المعاهد، ولا سيما أنها لا تعنى بمواد باتت جزءاً من ذاكرة الطالب المنسية.

ويقول لنا مهران أن نتائج الامتحانات الثانوية في مدرسة بلدته، لن تشجعه على الدراسة فيها، فهو يفضل الدراسة الحرة في معهد خاص.

وإذا ما نظرنا قليلاً إلى التكلفة المترتبة على هكذا قرار بالنسبة لطالب سوري، فسنجد مثلاً أن الدراسة الثانوية في أحد المعاهد قد تكلف الطالب بحدود /8000/ ل.س أي ما يعادل ضعف راتب الموظف السوري، وذلك إذا ما درس الطالب المواد الأساسية فقط، إذ يحق له في المعهد، اختيار المواد التي يريد دراستها. أما تكلفة الدرس الخصوصي فهي تتراوح ما بين (200 ـ 1000) ل.س للدرس الواحد، وهذا ما لا يستطيع طالب متوسط الحال تسديد نفقاته، إلا إذا باعت والدته ما تبقى لها من أساور وخواتم اشتراها لها أبوه يوم عرسهما.

وبالتالي قد تكلف المادة الواحدة ما بين (4000 ـ 20000) إذا استطاع المدرس الخاص أن يدرسه إياها بعشرين حصة فقط، وهذا ما يصعب إنجازه، إذا ما علمنا أن كثيراً من المواد كالرياضيات مثلاً، تتفرع إلى عدة مواد جزئية، كل منها يحتاج إلى أكثر من عشرين حصة دراسية، ليستطيع الأستاذ تدريسها للطالب.

إذا ما أخذنا المقولة التي تقول بأن التعليم في بلدنا مجاني نسبياً، فإن هذه  المقولة تحوي من اللبس ما تحويه من الحقائق، فالتعليم مجاني بالنسبة للطلاب فقط، أما المجتمع فهو من يدفع تكاليف هذا التعليم من مخصصاته، وعلى حساب أمور أخرى كالنقل والطبابة والأجور وغيرها، مما يجعل الآلية التي تعمل عليها ماكينة المؤسسات التربوية، تستنزف أموال المجتمع لحساب التعليم، ليقوم الطالب في آخر المطاف، باللجوء إلى التعليم الخاص والدروس الخصوصية، وفي هذا ظلم للمجتمع وللتعليم، للأستاذ وللطالب.

 الأستاذ أدهم القاق (مدرس ومدير أحد المعاهد في جرمانا) يقول لنا حول التعليم الخاص:

«نحن أمام حالة من التخلف ترتبط بكافة نواحي المجتمع، ومالجانب التربوي إلا انعكاس يشير إلى هذه الحالة، فهجر الإبداع، والالتزام بمناهج تعليمية محددة نمطية، سمة واضحة في مناهجنا، وليس المطلوب في هذه المرحلة وضع مشاريع جاهزة للإصلاح، بقدر ما نطلب بحثاً ميدانياً دائماً واستنباطاً لنواظم الحياة بكل جوانبها.

التعليم الخاص يفرض نفسه الآن في ضوء هذه الظروف حتى غدا هو الاستجابة لمتطلبات الواقع التعليمي، الذي ينتقص من حقوق المعلم والمتعلم، ويبتعد به عن عوالم الإبداع واستخدام المهارات العقلية.

وليس سراً على أحد حالة الفقر التي يعيشها المعلم والمدرس، و الذي يسعى خارج الأطر التربوية من أجل تأمين لقمة العيش، والأمثلة كثيرة جداً لما يحدث من مهازل في الأسرة التربوية».

وفي سؤالنا له حول رأيه بالمناهج التربوية المتبعة بالتدريس قال:

«إن المناهج التربوية السائدة لدى مدارسنا وجامعاتنا بشكل عام، اختيرت على أساس من الانتقائية العشوائية لمناهج غربية، بعضها مترجم حرفياً دون أن يراعي المستويات والظروف المختلفة لكل منطقة، وبالتالي لا نلاحظ خططاً واضحة ومحددة ينطلق المنهاج منها ولا أهدافاً واضحة ترتسم  على طريق من خلف مكتبه القيام بتحديد هذه الأهداف بينما المطلوب هو البحث الميداني الدائم.

إن المساهمة في صياغة المصطلحات اللغوية مثلاً هو انعكاس لحال الأمة من حيث نتاجها الفكري والعلمي والسياسي.. ولذلك نتاج الفكر الغربي الرأسمالي هو المسيطر على منطقتنا، ومصطلحاتهم هي التي تفرض نفسها، وعندما قدم الشعب الفلسطيني نموذج الانتفاضة لشعوب العالم مثلاً، عبر عن حالة كفاحية إبداعية اضطرت دول الغرب جميعاً لتقدم مصطلح (انتفاضة) كما هو، إذ لم يتمكنوا من إيجاد مرادف لغوي لهذا الفعل السياسي الجبار، وهذا نموذج عن إبداع عربي استطاع أن يفرض نفسه».

 أما الأستاذ (خالد. م) وهو مدرس لمادة الجغرافيا فقد اعتبر أن المعاهد الخاصة والتدريس الخصوصي، هو ببساطة الملجأ الوحيد لضمان لقمة عيشه، وقال:

«من الناحية التربوية الطالب يفضل المعهد الخاص أو الدرس الخاص لأنه يتخلص من تعقيدات تفرضها عليه المدرسة كمؤسسة تربوية فقدت علاقتها المباشرة معه، أما المناهج والإعطاء فهو نفسه، وكثيراً ما قد يتعرض الطالب للاستغلال والابتزاز أثناء الدروس الخاصة إلا أن الأهل مستعدون لدفع كل ما يملكون كي يضمنوا لابنهم فرعاً جامعياً مرموقاً، وأغلب الأساتذة متفقون برأيهم اتجاه المناهج التربوية، ولقد كانت ردات الفعل إيجابية نوعاً ما، حول تعديل كتاب الثقافة القومية مثلاً لطلاب الثانوية العامة، بما يتناسب مع قناعاتهم ومدركاتهم».

حنان .ع (طالبة في المعهد التجاري) تقول:

«لست مقتنعة بفكرة تعديل المناهج وحدها، دون تعديل الآليات التي تعمل ضمن إطارها المؤسسات التربوية، فأنا مثلاً، وكثير من الطلاب والطالبات، لا نجد في الفرع  الذي ندرسه تحقيقاً لطموحنا، ولا نجده طريقاً لتحقيق ذاتنا، وكلنا نعرف أن ما ستؤول  إليه الأمور في أحسن أحوالها، هو أن نكون موظفين في إحدى الدوائر الحكومية (إن استطعنا إلى ذلك سبيلاً) ورغم أن الجميع يعلم أن الشهادة الثانوية السورية لا تحدد قدرة الطالب السوري، ومهاراته الذهنية، كما ليست محدداً لدرجة ذكائه وقدراته الإبداعية».

الحلول واضحة

 

بدو أن النقاش حول المشاكل التي تجري في مؤسسات الدولة التربوية. لم يعد نقاشاً شيقاً إذ أن الأزمة موجودة وواضحة، والحلول موجودة وواضحة، وما علينا إلا العودة إلى الصحف الإعلانية لنبحث عن عمل ما نضيفه إلى عملنا، أو التسكع حول اسوار المدارس الدمشقية ليس لقراءة الإعلانات، وإنما لنيل قليل من الهواء الملوث، القليل من الهواء فقط.

معلومات إضافية

العدد رقم:
182