خارج القمقم

رحم الله الرصافي عندما قال: ياناس لاتتكلموا... إن الكلام محرم... ناموا ولاتستيقظوا... مافاز إلا النوم

أمضيت الستين من العمر وأنا أخاطب المسؤول وكل من يجلس خلف طاولة أو بدونها في دائرة حكومية بالكتب والأوراق الرسمية مزينة بالطابع المالي ورقم البطاقة الشخصية. وقد يكون حلماً أن أحظى بلقاء صاحب قرار في محافظتي (حمص العدية) سابقاً لبضع دقائق من أجل مصلحة عامة، حتى لو كان المسؤول في زيارة تفقدية أعلم بهذه الزيارة من خلال تنظيف الشارع بالماء ورش المبيدات حتى لايتعكر مزاج المسؤول ويحيط به فئة تنحي المشاكل والهموم جانباً حتى لايتعكر صفو الضيف، وتتأثر فرحة المرافقين.

أيها السادة وبكل صراحة:

أنا من الذين صفقوا كثيراً لكل إنجاز تم في هذه المحافظة، ولكل حجر أساس تم وضعه، صفقت بتاريخ 4/11/1994 عندما حضرت السيدة الدكتورة نجاح العطار وزيرة الثقافة في ذاك الوقت وأزاحت الستار عن لوحة رخامية لاتزال حتى اليوم على باب سينما الزهراء (الكندي حالياً) تعلن أن مجلس مدينة حمص سيقوم بتحديث وتطوير هذا الصرح خلال عشرين شهراً...!!! ومضى القرن العشرون بكامله وفي السنة الرابعة من القرن الحادي والعشرين أنجز العمل أي بعد عشر سنوات! و المدينة بأشد الحاجة إلى مسرح أو صالة.

صفقت كثيراً عندما تم وضع حجر الأساس لبناء الكتلة الشرقية والغربية في شارع القوتلي قلب المدينة حيث أخرج اصحاب المحال التجارية دون تأمين بديل أو حق بالعودة! ورغم مرور مايزيد عن عشرين عاماً فإن الإنجاز لايمكن أن يعلم أحد به إلا الله وقد يمر جيل أو أجيال ولانرى دخول مستثمر إلى هذا البناء. رغم صرف مئات الملايين من الليرات.

صفقت كثيراً وأنا أرى مسؤولاً أو أكثر بين جمهرة من المواطنين وقد حمل قليلاً من الأسمنت ليضع حجر الأساس لمشروع ودارت الأيام وزالت الحجارة أو بقيت آثارها والمكان هو هو...

لكن أيها السادة: أشعر بالأسى والحزن عندما أقترب من أول مجمع حكومي و غير حكومي تم بناؤه في هذه المدينة ويضم بداخله وفي غالبية طوابقه الشاهقة (البلدية) أو (مجلس المدينة) حسب التسمية الحديثة.

أعلم حسبما تعلمت وسمعت، أن البلدية مسؤولة أمام القانون عن كل مخالفة بناء كيف تمت ولم تقمع. ولعدم وجود لقاء مع المسؤول أو ندوة وما أشبه ذلك أقول أن البلدية:

مسؤولة عن كل حي من الأحياء التابعة لسلطتها لماذا لم تؤمن الخدمات الأساسية لها؟ مسؤولة عن الحجارة السوداء (الأطاريف) التي اقتلعت من غالبية شوارع المدينة ورحلت واستبدلت بقطع من الخفان؟ مسؤولة عن صرف ملايين الليرات بحجة تبليط ساحة الشهداء وبعد أقل من عامين رأينا الجرافات والآليات تعيدها إلى وضعها السابق.

مسؤولة عن حديقة بسيطة مثل أصحاب الحي الذين أشيدت به على طريق الميماس مقابل مدخل سوق الهال وبكلفة ملايين الليرات وتفتتح في الشهر الرابع من هذا العام ليتم حفرها وخرقها في الشهر الثامن بحجة إنجاز مجرور عام؟

البلدية مسؤولة: عن لوحات علقت على أعمدة الكهرباء وهي لوحات مؤلفة من لمبات صغيرة ثم غابت عن العيون.

البلدية مسؤولة: عن مواطنين أكلوا لحم الحمير دون رقيب أو عتيد، ولحم جيف ولحوم مثلجة قادمة من الهند أو بلاد المنعمين لاتصلح حتى للبهائم الشاردين.

البلدية مسؤولة: عن لعبة القط والفأر في محاربة التجاوزات على الشوارع والأرصفة حتى أن المارة يتعذر عليهم شق الطريق على الرغم من فرز أسطول من العناصر الماهرين.

البلدية مسؤولة: عن كميات كبيرة من الحديد والشبك الحديدي وضعتها حواجز حديدية على جانبي الشوارع من مقام خالد بن الوليد مروراً بشارع القوتلي وشارع عبد الحميد بكلفة عشرات الملايين، وأزيلت أمام عيون المشاهدين. وبقي شيء منها في شارع هاشم الأتاسي غربي دار الحكومة.

البلدية مسؤولة: عن أحياء حمص القديمة والأثرية إذا بقي منها شيء إلى هذا الحين.

البلدية مسؤولة: عن الذين يقومون بإرواء البساتين بمياه المجارير ولاغرابة أن يقال أنها ينابيع.

البلدية مسؤولة: عن حضارة المدينة وتطويرها والوصول بها إلى درجة من الرقي يتلاءم مع القرن الحادي والعشرين، ولحينه ليس هناك من مؤشر يشير.

لقد مشيت على الشوك وتعثرت كثيراً وأنا أتحدث عن تلك المآسي ولكن هناك أعظم! وماهو الأعظم: إنها ظاهرة قطع الأشجار وإبادتها في مدينة حمص.

تحت جنح الظلام تم إزالة الأشجار التي زرعتها أيدي الأجداد والآباء في شارع القوتلي وعبد الحميد الدروبي حيث تم إبادة أشجار الأكاسيا عن بكرة أبيها. ذات الزهر الربيعي الخلاب. وقد كتب الأستاذ عبد الكريم الناعم مشكوراً مقالاً مطولاً في جريدة «العروبة» حوله، وتغير مستثمر مقهى الروضة وهي غابة خلابة من أشجار الصنوبر والدلب حيث وضعت البلدية مخططاً لإشادة مطعم مطل على شارع القوتلي توسط المخطط شجرة صنوبر معمرة فطلبت البلدية بكتاب إلى مديرية الزراعة ـ الحراج وعملاً بالقانون رقم 7 الذي يعاقب بالسجن لمن يقوم بقطع الأشجار الموافقة على قطعها حيث تشكل عائقاً للبناء وتمت الموافقة بالسرعة الكلية، ولكن ماذا حصل تم قطع خمسة أشجار من أشجار الصنوبر المعمرة التي يزيد عمرها عن قرن كامل. وتحول مقهى الروضة إلى غابة من كراسي البلاستيك خالياً ومتحدياً للجميع وجود وردة أو زهرة به. بل وقام المستثمر بتكبيل الأشجار بالحديد أشبه بالمكبلين في سجن غوانتانامو ـ أو المجرم صدام وهل الأشجار في هذه المدينة تابعة لتنظيم القاعدة أو شبيه به؟

وجاءت في الشتاء الماضي العاصفة الثلجية لتقطع بعض اغصان أشجار الكينا في بعض الشوارع فجاء الفرج لبلدية حمص. فعملت آلات التقطيع الكهربائية بالأشجار تقليماً جائراً وتحركت قلاباتها وآلياتها بنقل مايقطع إلى مقبرة تليق بها!!!

وهنا لاأبالغ إن قلت بأن بعض سكان الأحياء الذين حضروا إلى منازلهم بعد ثلاثة أيام لم يصدقوا ماشاهدوا ومتى تم هذا الإنجاز كما هو حال شارع جورة الشياح وعثمان بن عفان...إلخ واليوم جاء دور شارع الغوطة وقطع الأشجار تحت حجة نبش ساقية قديمة أشادها الحماصنة كانت فتنة للناظرين وملاذاً للرواد والمارين. والسؤال:

ألم يتم ردمها في السابق بأمر من البلدية، أستشهد بقوله تعالى: «سبحان من يحيي العظام وهي رميم» وإمعاناً في التمادي: قام أحد المواطنين بالطلب حسب قوله من مدير مصلحة الحدائق ببلدية حمص بالموافقة على قطع خمس أشجار في مسطح خضراء في أبنية جمعية الادخار في حي القرابيص دون مبرر ولاعلاقة للبلدية بزرعهم أو إروائهم وملف هذا الموضوع لدى السيد عضو المكتب التنفيذي لشؤون الزراعة. وقد قطعت!!

ياسامعين الصوت: حدثني وزير سابق أكن له كل احترام فقد كان أستاذي في الستينات أنه قام بزيارة إلى سويسرا، وفي لقاء مع سفيرنا هناك في ذاك الوقت وهو من آل الحلاق فقد شكا السيد السفير من الروتين في ذلك البلد، فاستغرب السيد الوزير وقال هنا يوجد روتين؟ قال السيد السفير: منذ ستة أشهر تقدمنا بطلب قطع شجرة في ساحة السفارة وحضرت عشرات اللجان من الخبراء والمهندسين والفنيين، وبعد نصف عام جاء الرد بعدم الموافقة على قطعها بل الموافقة على نقلها إلى موقع آخر بإشراف مختصين وتحت علم بلدية العاصمة هناك. ورضخت السفارة للأمر!! وعلى نفقتها.

كدت أبكي لكني ضحكت. لو كان الأمر مع بلدية حمص لقطعت الشجرة بمخابرة على هاتف خليوي!!!

 

■ عبد الغني الجندي

معلومات إضافية

العدد رقم:
230