مطبات حقاً إنها أخلاق سوق

لم نؤل جهداً في تعداد انهياراتنا الاقتصادية، من سوقنا المفتوح على مصراعيه أمام التجار الذين يتحكمون بنا كما يشاؤون دون رقيب أو حسيب، الغلاء الذي لا تقدر عليه جيوب الأغلبية من الفقراء، الخطط الموضوعة لجعلنا خارج عنوان ذوي الدخل المحدود، القرارات التي ليس بمقدورها ملء بيت (المونة) أكان براد بردى أو (فريزا) جنرال تبريد على الهواء... أو نملية قديمة بشبك ما زالت تمتلكها عجوز محنية من وطأة العمر والعوز.

كل السيناريو الاقتصادي الطويل الذي كتبا عنه، وأوجع أيامنا ورؤوسنا، وحول حياتنا إلى نواح كالثكالى اللواتي فقدن المعيل وعمود البيت، هذا السيناريو لم يبق وحده هاجسنا المر، تجاوزت مشاكلنا الركض خلف لقمة العيش ورغيف الخبز، لم يعد الجري الطويل والدوام ليوم كامل يثقل ظهورنا المحنية، ولا انتظار معاش التقاعد في الستين من العمر كنهاية سعيدة لإنجاز يرفع الرأس أمام الأولاد كما لو كان إرثاً.
ما يثير الذعر الواقع المنهار لأخلاقنا بعد عضة الاقتصاد القاسية في قلوبنا، كيف لنا أن نحتمل ما تكتبه الصحف المحلية عن اغتصاب طفلة في الرابعة من عمرها من أربعة (وحوش) مكبوتين، فضوا روحها قبل جسدها، أربعة (..) رؤوا في الجسد الرخو مادة لإفراغ جوعهم، أربعة أعوام أفاقت على ما لا تعرف من قرفنا الإنساني حين نحوله إلى غريزة فظة وقاتلة، ما الذي ستتركه هذه الجريمة في ذاكرة وروح الطفلة، كيف ستنسى الألم الذي ربما خف بالمخدر والأدوية، لكن أي مهدئ سينتزع عيون الذئاب من روح لم تر بعد الكذب والغدر والأنياب، نحن الذين نمشي على أربعة، ونأكل بعضنا من أجل لذة عابرة.
قبل أكثر من سنتين أحد الوحوش الضالة افترس طفلة في طريق عودتها من الدكان المجاورة لمنزل أهلها، الطفلة التي تحمل بفرح كيس (الديربي) الذي قادها على حتفها، في الجوار زريبة قديمة قادها الوحش إلى وسخها ووسخه، لم يكفه الاغتصاب، حمل أكبر حجر وهرس به الرأس الصغير، ماتت الطفلة ولم تأكل كيسها وعمرها، ماتت طفولتها البريئة تحت شخير الوحش الذي لم ير فيها سوى لهاثه المدنس، ورائحة تعرقه المقرفة؟ في المحصلة ألقي القبض عليه، وحكم بالإعدام في ساحة البلدة الصغيرة.. لكنه عقاب لا يكفي لموت البراءة، وبالتأكيد لا يكفي لحل المشكلة/ الظاهرة ورفع أسبابها ودوافعها العميقة.
ذبح الطفولة حادث طارئ على مجتمعنا، لكنه ينتشر كالوباء، فالذبح ليس الاغتصاب والقتل وحدهما، أن تعمل طفلة لم تتجاوز الزهرة الرابعة عشرة من عمرها في ملهى ليلي أكبر من قتل، أن تعمل طالبة في الثانوية العامة في فصل الصيف بمحل لبيع الموبايلات لجلب الزبون لتعين أسرتها، جريمة قد تقود إلى جريمة، أن تعلن محلات الألبسة بكل صفاقة عن حاجتها لآنسة للعمل، أن تنشر صحف الإعلانات عن رغبة مؤسسة بلا عنوان لفتيات كمندوبات من أعمارهن بين 20-35، والخبرة غير ضرورية، ألا يثير إعلان كهذا شهوة الريبة، أو طلب سكرتيرة جميلة تجيد لغة أجنبية وبدوام مفتوح.
قادنا الاقتصاد المفتوح إلى أخلاق جديدة، قد يقول قائل: ما علاقة قتل طفلة واغتصابها بالاقتصاد، بالأخلاق الوافدة؟ عندما تفرغ المعدة تهون الأخلاق، تتكسر القيم، ويمكن أن تبيع ما غلى لأجل أطفال ينتظرون وجبة طعام، قادنا إلى أن نبرر للص سرقته بدعوى الحاجة، أن نبرر لساقطة فعلتها للسبب نفسه، أن نشعر بالتعاطف مع موظف مختلس أو مرتش لأن راتب الوظيفة لا يكفي.
الأخلاق الجديدة والاقتصاد الجديد سوف يذهبان بنا إلى اللحظة التي سنقف فيها أمام مرآتنا المكسرة ولا نتعرف بجهد على وجهنا الأول، الوجه الذي كان، حين لا يجعل طعم الفقر في أفواهنا.. أجسادنا عرضة للهوى، ولا أيدينا قادرة على الاختلاس لأنها لنا، الأخلاق الجديدة أخلاق سوق فعلاً.

معلومات إضافية

العدد رقم:
411