ورشات صياغة الذهب... حرفة عريقة مهددة بالانقراض
أدرك السلطان العثماني سليم الأول، بعد أن وسع امبراطوريته لتشمل بلاد الشام والعراق ومصر، أنه مامن مدينة في العالم يمكنها أن تقدم له ماتقدمه دمشق في مجال الفنون والصناعة والحرف، لأنها تضم داخل أسوارها أمهر الحرفيين وأعرقهم على وجه البسيطة، لذلك سعى منذ البداية إلى تقديم كل المغريات لهم لكي ينقلوا ورشاتهم إلى الآستانة «اسطنبول».
حدث ذلك في الربع الأول من القرن السادس عشر!!! ولكن..... ماالذي يحدث الآن للحرفيين... في بداية الألفية الثالثة؟!
على طريق الانقراض
ليس خافياً على أحد أن الكثير من الحرف القديمة، والتي كانت تشتهر بها دمشق، قد انقرضت وتلاشت، والكثير المتبقي منها يسير على طريق الاندثار، إما بسبب انتفاء الحاجة إليها مع التطور التقني، أو بسبب الإهمال المتعمد والمضايقات المستمرة التي يمارسها البعض تجاه الحرفيين في مختلف الحرف، وإذا كان موضوع مادتنا اليوم يتعلق تحديداً بورشات صياغة الذهب، فذلك لأن هذه الحرفة العريقة، باتت اليوم من أكثر الحرف التي توجّه الحراب المغرضة إليها.
ماهي هذه الورشات؟
هي عبارة عن مشاغل بسيطة وصغيرة، يقوم الحرفيون فيها بصياغة الذهب حسب رغبة وشروط الزبون الذي غالباً ما يكون تاجراً من أصحاب المحلات التجارية لعرض وبيع وشراء الذهب، وهو من يقوم أصلاً وفي معظم الأحيان بتقديم كميات الذهب المراد صياغتها، وفقاً لمعايير فنية وجمالية محددة، وبالتالي فإن الحرفيين العاملين في هذا المجال ليسوا من الأغنياء واسعي الثراء كما يظن البعض، بل هم كغيرهم من الحرفيين، من حيث المستوى المادي والمعيشي، مع العلم أن هذا المستوى آخذ بالتدهور لأسباب كثيرة، سنستعرضها في تحقيقنا.
أما مكونات هذه الورشات، فلا تتعدى بعض الأدوات والآلات البسيطة التي لاتتسبب بأي ضجيج أوخطر أو تلويث، كما أن بعض المواد الكيماوية التي تحتاجها الورشة، مثل روح الملح وحمض الكبريت، لا تستخدم إلا بكميات بسيطة، وبشروط معروفة ومتبعة حددتها الجمعية الحرفية للصياغة.
تصاعد درامي لمشكلة مفتعلة
منذ فترة ليست بعيدة، ولأسباب ربما تكون شخصية (وربما لا) ولكنها حتماً حاقدة وغير موضوعية، أخذ البعض من المغرضين المتزمتين يؤلبون الجهات الرسمية والجوار على هذه الورشات، بحجة أنها تسبب مشكلات صحية وأمراضاً مستعصية كالسعال التحسسي والتهاب الرئتين والسرطانات بأنواعها... والعقم!! وبحكم أن هذه الورشات تتواجد في قلب المدينة القديمة (القيمرية ـ تلة القاضي ـ حي الخمارات) فقد حاول هؤلاء إقناع الجميع بضرورة إغلاق هذه الورشات وتقدموا بشكاوى رسمية لمديرية مدينة دمشق القديمة بهذا الخصوص، لتتسارع العملية بعدها بشكل مريب، إذ تم وبشكل فوري تشكيل لجنة لدراسة الشكوى، ومنذ الاجتماع الأول خلص المجتمعون إلى أن هذه الورشات تشكل خطراً على البيئة وعلى السكان، ويجب توجيه الإنذارات إليها، ريثما يتم التفكير بإيجاد أماكن بديلة لها خارج المدينة القديمة!!
مفاجأة صاعقة
تلقى الحرفيون قرارات اللجنة وإنذارها بإغلاق الورشات بدهشة وألم، لكن الصدمة ماكانت لتوقفهم مكتوفي الأيدي، بل سارعوا إلى توقيع عريضة موجهة إلى من يهمه الأمر، يشرحون فيها حالهم وحال ورشاتهم، ويبينون فيها أن حرفتهم لاتسبب أي ضرر أو إساءة لأحد، وإلا لكانوا هم أول المتضررين، فعملهم المتواصل في هذه الحرفة لم يتسبب لهم أو لأولادهم بأي مرض أو عاهة أو داء عضال، كما أن عملهم يتم في معظمه يدوياً، أما الأدوات الكهربائية التي يستعملونها فلا تتعدى مخاطرها مخاطر أية آلة أو أداة كهربائية موجودة في كل منزل كالبراد والغسالة والمكيف والفرن الكهربائي. وأكدت العريضة أن هذا القرار لو تم تنفيذه، فسيكون بمثابة الضربة القاضية، وسيؤدي إلى اندثار هذه الحرفة وزوالها من الوجود!!
تضامن أهلي.. يدحض الحجج
لقد أثار قرار إغلاق الورشات امتعاضاً واستياء عاماً من الجوار الذين تعايشوا طوال عقود وبشكل متلاصق مع هذه الورشات وأصحابها، دون أن يصيبهم من جراء ذلك أي مكروه ونتيجة لهذا التعاطف الكبير، وكمحاولة لتبيان الحقائق ووضع النقاط على الحروف، رفعوا عريضة لأصحاب العلاقة المسؤولين عن هذا الأمر، أكدوا فيها أن هذه الورشات وطوال أكثر من خمسين عاماً، لم تسبب لهم أي مشكلة صحية أو عارض مرضي، وقد وقع على هذه العريضة أفاضل الناس في الحي من كل الشرائح والفئات والمذاهب...
إذا كانت المشكلة الحقيقية تكمن فعلاً بالآثار الضارة لبعض المواد الكيماوية التي تستعمل في هذه الورشات، أفلا يمكن معالجة الأمر بأساليب أكثر تحضراً، وبشكل يضمن السلامة العامة للبيئة، ويحفظ للحرفيين ورشاتهم ومصادر رزقهم، أم أن تحويل هذه الورشات الى مطاعم ومقاهٍ... يحفظ البيئة أكثر؟!!..
أسئلة كثيرة بدون إجابات
هناك الكثير من الأسئلة تثير الحيرة في هذه المشكلة ولكنها تبقى بدون إجابات واضحة وحاسمة فمثلاً:
●● كيف تواجد أحد مقدمي الشكوى في الاجتماع الذي عقدته اللجنة المكلفة بدراسة هذا الموضوع؟ ومن الذي دعاه أو سمح له بالدخول؟
●● لماذا اشتكى هذا الشخص على ورشات الصياغة، علماً أنه ليس من سكان الحي أصلاً، في أحسن الأحوال ليس جاراً للورشات ليدعي أنها تسببت له بالضرر؟
●● ماهو دور العلاقات الشخصية (القائمة بين المشتكين وبعض اعضاء اللجنة)، في وصول الأمور إلى هذا الحد الخطير؟
●● لماذا لاتتخذ نقابة الحرفيين، أو بالحد الأدنى، الجمعية الحرفية للصياغة موفقاً صلباً يناصر متضرري اليوم، قبل أن يصل البل إلى ذقون الجميع؟
بين الورشات والمعامل الكبرى
لعل أكبر المستفيدين من تضرر الورشات الحرفية الصغيرة، وفي هذا الوقت بالذات، هي المعامل الكبرى التي تسعى للهيمنة على سوق الذهب، وبالتالي تحويل هؤلاء الحرفيين المهرة إلى عمال مأجورين لديها بأجور زهيدة، اترى هل ثمة علاقة خفية لهؤلاء بكل ما يحدث؟ أم أن المسألة محض صدفة؟
غزو الذهب الأجنبي
ثم كيف يدخل المصاغ الأجنبي المهرب إلى بلدنا، ومن يسهل عملية غزو الواجهات البراقة في محلات ومعارض الذهب المتناثرة هنا وهناك في جميع الأسواق القديمة والحديثة؟ بعضه إيطالي وبعضه تركي وبعضه مجهول المصدر.
شهادات حية
■ السيد شوقي نمر، حرفي قدير وعتيق، يقول:
أعمل في هذه الحرفة منذ خمسين عاماً، ولم أضع كمامة طوال حياتي المهنية، ولم أصب بأي أذى، علماً أن جميع زملائي في الحرفة يحذون حذوي، فمن أين اخترعوا هذه البدعة؟ ثم إنهم يدّعون أن هذه الورشات تسبب العقم، فهل يعلم أولئك أن حرفتنا نتوارثها أباً عن جد!!! (شو هالمسخرة)!!
■ الحرفي س.ف، يقول: ورشاتنا بسيطة ونظيفة، وموادنا التي نستعملها، يستعملها الكثيرون من أصحاب المهن والحرف المختلفة بدءاً من طبيب الأسنان وانتهاء بالإنسان العادي، فكيف نصير نحن بين ليلة وضحاها أعداء البيئة، فيما التلوث يخنق المدينة.
■ الحرفي أيمن الراسي: لم نستطع مقابلته لأنه تم إغلاق ورشته في يوم إجراء هذا التحقيق 5/4/2004.
■ الحرفي س.س، يقول: مع ارتفاع أسعار الذهب واستمرار الضغوط علينا كحرفيين، اضطررت لترك المصلحة، وها أنا الآن أعمل سائقاً فمن ياترى يلوث البيئة حرفتي...أم السيارة.؟
■ الحرفــي م.ر، يـــــقــــــــول: يدّعون أنهم يشجعون السياحة، وورشتنا دائماً مقصد السياح، فمن هو المستفيد من إغلاقها؟ ويتهموننا أننا نستعمل مواد ضارة وبشكل سري، فكيف لانتضرر نحن، ولو كنا فعلاً نتبع السرية في استخدام المواد الكيماوية، أوليست لهذه المواد رائحة فاضحة وآثار سريعة، إن احتراق علبة كبريت مليئة بأعواد الثقاب تلوث البيئة أكثر من فرني الشوي والصهر اللذين نستخدمهما! وهما لايتجاوزان بحجمهما وضررهما المفترض أي فرن كهربائي موجود في كل منزل.
القشة التي سوف تقصم ظهر البعير
وخلاصة القول، إن هذه الحرفة كانت تعيش أصلاً وقبل حدوث هذه المشكلة وتصاعدها ظروفاً صعبة وقاسية. فالارتفاع المتواصل لأسعار الذهب والذي أدى إلى ضعف حركة البيع والتصنيع والصياغة من جهة، (وهذا ما ينعكس سلباً على العاملين في هذه الحرفة)، ومنافسة المصاغ الأجنبي الذي يدخل بشكل غير قانوني إلى البلد غازياً الأسواق، من جهة ثانية، وإهمال الجهات المعنية للحرف بشكل عام، ولهذه الحرفة بشكل خاص، كل هذه الأسباب كانت تضيق الخناق على هذه الورشات العريقة بشكل كبير ومتزايد، فكيف وقد وصلت الأمور بعد اختلاق هذه المشكلة إلى حد إغلاقها والتفكير في نقلها إلى أماكن مجهولة.. علماً أن طبيعة هذه الحرفة تتطلب تواجدها بالقرب من الأسواق ومحلات البيع، كما أن الحضور السكاني بجوارها ضروري لتأمين السلامة والأمن لها، خاصة وأن مادتها الأسياسية هي الذهب!
نظافة البيئة، الذريعة الواهية
قد يكون الحرفي هو أكثر المتناغمين مع البيئة، فهو تاريخياً الأكثر اتصالاً وربما اتحاداً مع عناصرها ومكوناتها، وبالتالي فهو الأكثر حرصاً على سلامتها ونظافتها، لأن ذلك يعني سلامته واستمرار بقائه، وإذا كانت البيئة وسلامتها هي مطية اليوم وحجة من لا يمتلك الحجج، فلينظر هؤلاء الذين يدعون الحرص على البيئة من التلوث، وليدققوا النظر من حولهم.. وسوف يجدون بالتأكيد أن أكبر الملوثين والمسيئين للطبيعة والناس، طلقاء منفلتون من كل عقال أو قيد, وليس هناك من يحاسبهم أو يوقفهم عند حد..
■ تحقيق جهاد محمد