«مو الأسعار الغالية.. أنت وراتبك رخاص»!
ارتفعت أسعار الألبسة الجاهزة في الأسواق مع بداية الموسم الشتوي بشكل مضاعف عن الموسم السابق تقريباً، وكما جرت العادة هناك الكثير من التبريرات والمسوغات التي يسوقها البائع عن نفسه وعن المنتجين.
إحدى السيدات قالت: «تصوروا بدريسة صوف بلا كم بالصالحية بـ 20 ألف ليرة، ومن النوع اللي بعد أول غسلة بتشلف وبتصير للكب.. العمى ما عاد في لا رحمة ولا شفقة».
سيدة أخرى قالت: «جارتي اشترت شال بـ 15 ألف ليرة، وأنا شفتو من سنة بـ 7 آلاف، وأختي اشترتو الموسم الماضي بـ 5 آلاف.. المشكلة مو هون؛ بغير محلات عم ينباع هلأ بـ 10 آلاف، شو هالأسواق لا حسيب ولا رقيب».
شذوذ
واقع أسعار الألبسة الجاهزة، على الرغم من بعض التناقض بين سوق وآخر، وحتى بين المحلات المتلاصقة، إلا أنها بارتفاع مستمر من موسم لآخر، وهي على ذلك ليست بتناقض مع الارتفاعات التي طالت الأسعار عموماً، وخاصة خلال سني الحرب والأزمة، ولكن الشذوذ يظهر بشكل أكثر فجاجة عند المقارنات بالأسعار، وهوامش الربح بين الأسواق والمحلات، التي لم يعد من الممكن للمواطن أن يتبينها لا من حيث الجودة ولا من حيث المواصفة، كما لم يعد بإمكانه أن يقتني ما يحتاجه منها خلال المواسم المتعاقبة، نظراً لارتفاع أسعارها الكبير بالمقارنة مع معدلات الدخول المنخفضة، بما في ذلك الألبسة المستعملة والبالة أيضاً، خاصة وقد طغت على السوق أنماط من الاستغلال الفج والكبير، بظل حالة الانفلات والجشع التي استطالت بفعل الحرب والأزمة التي أفرزت تجارها ومستغليها.
وقد عبر أحد المواطنين عن ذلك بقوله: «الأسعار مو هي الغالية.. أنت وراتبك رخاص».
عراقة وتنافسية
صناعة الألبسة الجاهزة السورية كانت في مرتبة متقدمة كمكمل للصناعات النسيجية في البلاد، والتي تعتبر من أقدم وأعرق الصناعات، كما كان لها مزايا تنافسية وفقاً لحيز التكامل الإنتاجي والصناعي فيها، اعتباراً من القطن، إلى الغزول وصناعة الأقمشة، انتهاءً بها، مع الأخذ بعين الاعتبار الاضطرار لاستيراد بعض مكملات هذه الصناعة من بعض الأقمشة والاكسسوارات، بغاية التنوع بالإنتاج وتحسينه على مستوى المواصفة والجودة والسعر، وهذا ما جعلها بمرحلة سابقة منافسة على المستوى المحلي والإقليمي، وحتى الدولي، ومورد هام على مستوى مدخلات الدخل الوطني، ناهيك عما كانت تستقطبه من أيدي عاملة كبيرة تقدر بعشرات الآلاف، بين المعامل الكبيرة والورش الصغيرة المنتشرة داخل البلاد.
أشهر العسل المرة
هذه الصناعة، كغيرها من الصناعات المحلية، تعرضت للكثير من الهزات والضربات الموجعة خلال العقود الأخيرة، ومن غير الصواب اختصار أزمتها وصعوباتها على مستوى ما تعرضت له خلال سنوات الحرب والأزمة فقط، على الرغم من ضخامتها وخاصة على مستوى الدمار الذي لحق بمنشآتها ومعاملها وورشاتها، بالإضافة لنزيف اليد العاملة فيها، فقد بدأت الصعوبات ومعوقات العمل بهذه الصناعة اعتباراً من بداية الألفية الثالثة، وتحديداً مع أشهر العسل مع تركيا والسوق الأوربية والانفتاح على المستوردات الصينية، عبر السياسات الحكومية الليبرالية المقرة والمتبعة، والتي ما زالت سارية حتى الآن مع تداعياتها السلبية كلها، ليس على مستوى هذه الصناعة المحلية فقط، بل على الصناعات المحلية الأخرى كلها، كما على مجمل الاقتصاد الوطني، الأمر الذي دعى بعض الصناعيين لنقل معاملهم خارج الوطن، قبل الأزمة والحرب، وخاصة إلى الدول الإقليمية، مصر- الاردن- تركيا- لبنان، وقد أتت الحرب والأزمة والعقوبات الاقتصادية فيما بعد، لتستكمل ما عجزت عنه تلك السياسات من مساعٍ لوأد هذه الصناعة، كما غيرها من الصناعات الوطنية.
صعوبات آنية
الصعوبات والمعيقات التي تواجه هذه الصناعة، كما غيرها، تتجلى بعدة نقاط أساسية، اعتباراً من متطلبات العملية الانتاجية اللازمة لها وخاصة الآلات الحديثة، والمواد الأولية، والوقود والطاقة والأيدي العاملة، مروراً بالطرقات وتأمين سلامة النقل، وليس انتهاءً بالإجراءات الحمائية لهذه الصناعة من المنافسة، عبر حماية المنتجين ودعمهم، ومنع الإغراق بالبضائع البديلة المستوردة والمهربة، وأخيراً اعتماد سياسات تسعيرية وهوامش ربح عقلانية، وذلك كله مع الأخذ بعين الاعتبار الواقع الاقتصادي المعاشي للمواطنين، وقدرتهم الشرائية الحقيقية على مستوى تأمين احتياجاتهم وضروراتهم الحياتية.
على ذلك فإن واقع السوق وتقلبه وانفلاته، ليس إلا انعكاس مباشر لمجمل السياسات الحكومية الليبرالية المتبعة، والتي أتت الحرب والأزمة لتزيد من فجاجتها وجورها، على مستوى الإنتاج والاستهلاك، وبالتالي من أولى الأولويات، هو القطع مع هذه السياسات التي أوقفت الإنتاج وأضرت به، كما أفقرت البلاد والعباد، وبعد ذلك يتم الحديث عن وضع الآليات الجدية والمناسبة على مستوى ضبط الأسواق والأسعار وغيرها من الإجراءات التي لا يجب إغفالها بحال من الأحوال.