عمالة الأطفال من أسواق دمشق إلى وكالات الأنباء

على جنبات الطرقات، في حارات الشام وأزقتها، في الأسواق وأماكن التجمع العامة، يكاد لا يفرغ متر مربع من طفل تتلبسه هيئة التشرد. الطفل يبيع العلكة، أو اليانصيب، أو يبيع ألعاباً لأطفال امتلكوا حق اللعب بينما الطفل يبيع، وبتعبير أدق: يتسول… القلة…

 الطفل البائع أو الطفل المتسول، لا يعرف عن الطفولة أكثر مما يعرف الدجاج عن طعم الفروج المشوي، فهو يبيع شفرات الحلاقة قبل أن تنبت ذقنه، ويبيع المأكولات دون أن يتذوقها، وقد يبيع المسكين نفسه قبل أن يعرف عن نفسه الكثير…

-  عصمت الذي يقف على مدخل كراجات (عمان ـ بيروت) يشدني من قميصي ويقول لي: «تباوي بوطك أستاذ» وبمساومات مالية قبل عصمت أن نتحدث قليلاً.

 سألته عن وزن صندوق البويا الذي يحمله، وعن المبلغ الذي يحصله في أخر المساء، وعن أشياء لا يستطيع عصمت ذي السنوات العشر أن يجيب عنها جميعاً… لكن عصمت الذي تعلم مبكراً أنك تستطيع أن تفعل أي شيء عندما يكون المال في جيبك، علمني كيف أصطاد «الأستاذ» لأمسح له حذاءه، كما علمني كيف تتحدث إلى «الأستاذ» بلباقة، فالأستاذ من أصحاب الجلد الطبيعي والضرورة تقتضي التعامل مع الجلد الطبيعي كي تتقاضى الشفقة والمال. عصمت يقول أن والدته متوفية، وأبوه يصلح الدراجات  الهوائية في معضمية الشام، وأخوه الكبير حارس ليلي في أحد المشافي الحكومية، وأخته تعمل في مشغل خياطة، إذ ليس من اللائق أن تعمل معه خلف صندوق البويا..

 الصبي حدثني أيضاً عن كسله في المدرسة، قال لي أنه رسب في الصف الثالث الابتدائي، وحين سألته عن مدى انزعاجه من مزاولة مهنته المبكرة، قال: أصدقائي لا يعلمون أنني أمسح الأحذية، صحيح أن الكثير منهم يعملون مع آبائهم، لكنهم لا يعملون «بويجية»، أبي يقول لي: الشغل مو عيب يا عصمت، لكني أعرف أن هذا الشغل عيب، لذلك أدهن وجهي بالبويا عندما أعود إلى المعضيمة كي لا تعرفني فاطمة…

 - محمد صادق (12 سنة) طفل آخر يبيع التشكلس أمام وكالة سانا للأنباء، حين اقتربت منه قال لي: «منشان الله اشتري» ومحمد الذي يسكن وأهله في منطقة السبينة، تكلم مطولاً عن «الحاج صالح» صديق أبيه، والحاج صالح رجل يشغّل عدداً لا بأس به من الأطفال إذا ما اعتمدناعلى ما ينقله لنا الطفل لا على ماتنقله وكالة سانا للأنباء..

 طلبت  من محمد أن يقودني إلى الحاج صالح، فقال لي أن الحاج يأتي في العاشرة مساءً إلى بيت اهله ليأخذ حصته من «الغلة» ويعطيه بضاعة الغد، وقد تحدث محمد ـ بما يسمح له وقته ـ عن مغامراته الشيقة مع شرطة المدينة الذين يطاردونه من مكان إلى مكان بتهمة  بيع «التشكلس»…

 حدثني عن «شغلة» صارت معه:

 مرة كنت في الكراجات وصعدت في الباص المنطلق إلى حمص لأبيع بضاعتي، تحرك الباص وأنا بداخله ومن ثم رماني السائق على رصيف إحدى الاستراحات في النبك، وأمضيت أسبوعاً كاملاً أتسول في الاستراحة وأنام فيها وحين عدت إلى البيت، ضربني أبي واتهمني بسرقة الغلة…

 - سألت علي سيف (13 سنة) صديق محمد في مداعبة ليس لها محل من الإعراب: لماذا تبيعون علكة تشكلس الأمريكية بينما الأمريكان يهددون سورية، هل تعرف أن الأمريكان (مومناح)؟

 فقال: «جربها أستاذ، إذا ما عجبتك معي علكة رشا علبتين بخمس ليرات»..

 وبين علكة رشا وعلكة تشكلس  يدور آلاف من الأطفال، بعض الناس يجرب «رشا» وبعضهم يجرب «تشكلس» والجميع يجرب بعلي ومحمد وعصمت وغيرهم من الأطفال السوريين الذين عايشوا حالة التسول والتشرد.

 وفي محاولة للحفاظ على صورة البلد السياحية، لا تتوفر إجصائيات رسمية تقدر عدد الأطفال الذين يتعرضون للابتزاز والاستغلال، لا في بيانات المكتب المركزي للإحصاء، ولا في وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، إلا أن 23 % من سكان سورية، أطفال تتراوح اعمارهم بين الخامسة والرابعة عشرة ونسبة من بيع منهم إلى أرصفة دمشق نسبة كبيرة، تتجاوز نسبة العائلات القابعة تحت خط الفقر أو بمحاذاته، وللأسواق قدرة فائقة على الابتلاع، ابتلاع الأولاد والآباء، ابتلاع المدينة..

 وللجهات الحكومية مزاج خاص في  إظهار المشكلة على شاشات القنوات السورية، وتقصيرها واضح في البحث في الأزمة، وإعداد فرق وطنية تدرس نتائجها بعدما باتت الأسباب معروفة..

 وهذا ما سيجعل النتائج مرعبة وقاسية أكثر فأكثر، مرعبة لنا جميعاً وقاسية علينا جميعاً، وجميعاً سندفع الثمن.

 ما الذي ينتظر عصمت، ولن نستطيع تسميته بالطفل، بعدما فقد كل ما يحق للطفل ألا يفقده؟

 هل سيصبح «حاج صالح» جديداً، يمضي في نفس الطريق الذي رسمه له الفقر وأهله، وتعيد المتوالية الهندسية إنتاج ذاتها، لنحاط بآلاف من «عصمت»، والآلاف تعمق  أبحاث جيراننا الأمريكان ـ وقد أصبحوا جيراننا ـ  عن حقوق الطفل وحقوق التشكلس؟

 ـ هل سيكون سجيناُ في سجن الأحداث بتهمة النشل أو الاحتيال أو بيع الأفلام الخلاعية والمهربات لينتقل بعدها إلى سجن آخر يدعم من فرصة ظهوره على القناة الفضائية في برنامج «الشرطة في خدمة الشعب» ليقول للمذيع السوري «ندمان سيدي»..

 السؤال مطروح على الجميع، مع أن الحلول بأيدي