مطبات: سقوط الكرنفالات
المسير نفسه نقطعه ويقطعنا، الطرقات والوجوه العابرة نفسها، التحية نفسها والرد بأحسن منها، الضحكات الفاترة والمارقة والبلهاء نفسها، السكون المريب والعاجز والمهادن نفسه، الأحاديث والحوارات نفسها، والصياح نفسه، اللغة الناقدة والمادحة والممنوعة والمعترضة نفسها، اليوم والأمس نفسه.. والغد كذلك.
هذه حياتنا، أي واحد فينا قادر على روايتها بالتفاصيل المملة، المثقف، الشاعر، الزبال، المدرس، بائع اليانصيب، الحلاق، أستاذ الجامعة، الأمي، الفنان، الرسام، الدهان... وكذلك الأرملة، العاملة، السكرتيرة، العاهرة، بائعة الدخان المهرب... هذه حياتنا.
هذه حياتنا... وحكاياتنا، من آخر مخاوفنا، إلى ما تبقى من أمل، إلى الإشاعات التي تطربنا، إلى الأوهام التي تطيل عمرنا في انتظار الفرج، من دعم المازوت إلى العيد القادم والماضي، الديون التي لم نسددها بعد، الراتب المحدود، صاحب العمل الخاص الذي لا يدفع، التقنين الذي تعدنا به الحكومة، النصائح التي تدور أمام عيوننا في الشريط الأزرق... عدم استخدام الكهرباء في التدفئة، قطع طريق الربوة لمدة شهر، رقم النجدة الذي وضعته وزارة الصحة للاستعلام عن أنفلونزا الخنازير، نتائج دوري المحترفين، فوز منتخبنا على فيتنام، مقتل جاسم العبيد في سيل تدمر.. حالة الطقس.
هذه حياتنا... مثقفون يسعون وراء الدراما التركية لزيادة دخلهم بعد أن جوعتهم المبادئ، أزواج يكذبون على نسائهم قبل أسبوع من عيد الأضحى، أولاد ينتظرون اللباس الجديد، موظفون يحلمون بدخل مفاجئ لأجل الحلويات، عائلات ترتعش بعناد بانتظار شيك الدعم، شائعات عن تسديد فواتير الهاتف الآلي بسبب خطأ وزارة الاتصالات في نظام فوترتها الجديد، وفريق اقتصادي يعدنا بالسعادة مع انتهاء الخطة الخمسية العاشرة.
في العالم المحيط بنا، فقراء البرازيل يحيون احتفالات عيد الطين، وكذلك الكوريون الشماليون، حيث تستضيف مدينة (بوريونغ) في كوريا الشمالية ما بين 11 و19 تموز مهرجان الطين الذي يقام مرة كل سنة، المهرجان بفكرته البسيطة يدعو لاستخدام الطين كمادة للعناية بالبشرة كما يساهم المهرجان في تشجيع الحركة السياحية في منطقة تبعد عن العاصمة سول 190 كم، ويستقطب المهرجان كل عام نحو 1.5 مليون زائر بينهم 80 ألف أجنبي.
في شمال اسبانيا آلاف المغامرين يركضون أمام الثيران في شوارع مدينة (بامبلونا) في سباق ركض لا يدوم أكثر من دقيقتين، يصاب من يصاب، يهرب من يهرب.. لكنه الكرنفال.
(لا توماتينا) مهرجان سنوي يقام في اسبانيا أيضاً، وتحديداً ببلدة (بونول)، حيث يقوم عشرات الآلاف من الأشخاص بتراشق البندورة، وإهدار مئات الأطنان منها، ففي هذا اليوم يأتي إلى هذه البلدة ما يقارب الـ40 ألف سائح.. إنه الكرنفال.
في الهند، ملايين الفقراء يستحمون في النهر المقدس بحثاً عن طهرانيتهم، خلاصهم، غرق جماعي في لذة لا تتشابه مع طقس بشري آخر، المهراجا والبقر المطمئن، الرقص عبادة الهنود التي تحررهم، غاندي العاري سوى من الهند كلها.. إنه كرنفال الماء المقدس.
في كل أمريكا اللاتينية، المخدرات، الخلاسيات، القهر، الفقر، الموت في مباراة كرة قدم، صناعة السيجار، مدن الصفيح التي تعيش بجوار الأمازون، الأعاصير، نشيد كوبا عن الخطوات التي تصنع الطرق.. كويلهو.. ماركيز.. بورخيس.. أمادو.. طقس صاخب لا يتنهي.
هنا.. حيث حكايتنا، احتفالات الطين تتكرر مع كل شتاء في شوارع التجمعات المخالفة وغير المخالفة، في (الحسينية) مثلاً ينتعل الناس الأكياس البلاستيكية فوق أحذيتهم للوصول إلى أقرب شارع معبد.. أليس كرنفالاً للطين.
أما عن الركض، فلدينا احتفالات الهاربين من شرطة المحافظة في شوارع دمشق من بائعي الدخان المهرب، البسطات، ماسحي الأحذية، الكعك، البالة... كرنفال يومي.
في الماء.. بردى يأتي أحياناً إلى الشام، في الصيف يتحول إلى ساقية، واليابانيون وبعض محبيه يحاولون مساعدته بتنظيفه، وآخرون بالدعاء، وبعد أن (بلطته) المحافظة يصلح كحل لأزمة المرور كشارع سفلي.
أما عما يشبه الطقس اللاتيني، الجريمة بخير، حبوب البالتان ومشتقاتها بخير، أحياء المخالفات وأمراضها بخير، طقس الغناء في السرافيس بخير، كرنفال يتمدد.. ويعلو.
هذه حياتنا.. وكرنفالاتها.