يوسف البني  يوسف البني 

ليالي الخريف الباردة أصبحت على الأبواب مازوت التدفئة بين الغلاء والغش والسرقة والتقنين

«منين وإلا منين بدنا ندبر حالنا؟!» «على شو وإلا على شو ها الراتب بدو يلحِّق ويكفي؟!» «ما بيكفي جوعونا وشردونا وغربونا ونحنا في أوطاننا، وبرَّدونا كمان وسوَّدوا ليالينا!!» هذا هو لسان حال السواد الأعظم من مواطنينا في سورية الغنية المنيعة، المستعصية على السقوط، المتكبرة الصامدة في وجه كل المخططات الرامية إلى أخذها من الخارج أو الداخل، وأصبح الهم اليومي للمواطن هاجساً يقلق راحته ويعكر صفوه وأمانه واستقراره

فمِن هَمِّ غلاء أسعار المواد التموينية، ومستلزمات الحياة المعيشية اليومية، إلى الفواتير الدورية التي لا يعرف المواطن كيف تترتب عليه، والتي يكاد يكون همُّها أبدياً لا ينتهي، إلى متطلبات شهر المؤونة الشتوية ومستلزمات المدارس، إلى الهَمِّ الأكبر، وهو كيفية تأمين الدفء لأولادنا أيام برد الشتاء القاسي!!

رغم التطور الحاصل في كل بلدان العالم في الصناعة النفطية، إلا أن سورية مازالت تستخدم مازوت السيارات في التدفئة، وهذا ليس مديحاً أو رفعاً لقدر مازوت السيارات عندنا، فهو الآخر ذو مواصفات مخالفة للمواصفات العالمية بسبب تهالك وقِدَم مصافي النفط في حمص وبانياس، وبقاء عملها وآلاتها على النمط الكلاسيكي القديم، الذي لم يتم تجديده أو على الأقل إجراء بعض الترميمات والإصلاحات الضرورية، منذ أكثر من خمسين عاماً، وهذا يؤدي إلى كثير من النتائج السلبية من الناحيتين الاقتصادية والبيئية. 

تصريحات رسمية

تقول الحكومة إن تكلفة ليتر المازوت حسب متوسط السعر العالمي يصل إلى 30 ل.س وقد استقر سعره في السوق السورية الداخلية على 20 ل.س مؤخراً، أي أنها تدعم المازوت بنسبة 33% من تكلفته الإجمالية، وهذا يشكل عبئاً كبيراً على خزينة الدولة، ومع أن هذه الأرقام مشكوك فيها حيث أن سعر برميل النفط الخام الممتاز في الأسواق العالمية لا يزيد عن 70 دولاراً، ومع ذلك فلماذا لا تحاول الحكومة وضع خطط جدية للبحث عن البدائل الاقتصادية لوقود التدفئة، وأنه من الغريب أن نحرق ليتر مازوت في مدفأة تدفئنا لبضع دقائق، وهو يمكن أن يُسيِّر آلية لمسافة طويلة، علماً أنه يوجد في مستخلصات البترول ما يدعى «زيت التسخين» وهو مازوت ليس فيه الخاصية التي تجعله يستخدم في السيارات، وقيمته السعرية أقل، والحرارية أعلى.

وتصريحات شعبية

من أجل الوقوف على تفاصيل وخفايا هذه المشكلة التي بدأت تخيم بظلالها مع اقتراب أيام الخريف والشتاء الباردة، كان «لقاسيون» بعض اللقاءات مع مواطنين من مناطق مختلفة، ومع بعض أصحاب محطات توزيع الوقود، الذين هم بدورهم تقلقهم بعض الهموم، ويواجهون مشكلات يطالبون بحلها:

• المواطن محمود شرح مشكلته مع تأمين المازوت لتدفئة عائلته المؤلفة من ستة أشخاص فقال: «في العام الماضي استجررنا ألف ليتر من المازوت على البطاقة بالسعر المدعوم 9.65 ل.س والموزع لا يعترف (بالفراطة) فأخذ سعر اللتر عشر ليرات سورية، ولكن بما أن الأسرة كثيرة العدد، وعندي ثلاثة أولاد بالمدارس، فإننا نضطر لاستخدام مدفأتين، وهذا تطلَّب استجرار ألف ليتر أخرى بالسعر الحر، الذي وصل عند الموزع إلى 26 ل.س، وهذه جريمة وكسرة ظهر لا يحتملها المواطن».

• الطالب فراس، الوافد من السويداء والمقيم في جرمانا مع أخيه وأخته في بيت مستأجر، قال: «استفاد أهلي المقيمون في الضيعة من قسائم المازوت المدعوم، واستجروا ألف ليتر، وبالكاد أخرجتهم من برد الشتاء القاسي هناك، حيث مصروف المازوت مضاعف، أما هنا فقد تفرغ أخي للسهر يومياً مع بيدونه أمام الكازية ليحصل على عشرة ليترات لا تكاد تدفئ سهرتنا على الدارسة، وصباح اليوم التالي قبل الذهاب إلى الجامعة، وكانت تكلفة هذه اللترات العشرة تبلع 250 ل.س وهذا مبلغ يومي يجب على أخي أن يحصل عليه من أية ورشة يعمل بها، وأي عمل يعمله مهما كان مهيناً أو صعباً قاسياً».

• المواطن إسماعيل، العجوز المخضرم الذي عركته الحياة، واختبر الكثير من غدرها وقسوتها، حذَّر من القادم فقال: «اللي راح راح همُّه معه، والله يجيرنا من القادم، فالقادم أعظم، والإحساس بعدم الاستقرار وانعدام الطمأنينة شيء خطير، فلا أحد يعرف كيف سنتدبر أمورنا في الموسم الذي يطرق الأبواب، فالسعر الحر للمازوت يكسر الظهر، حيث تباع التنكة بالكازية بـ400 ل.س ومع الباعة الجوالين بـ450 ل.س ولا يوجد بعد أي باب ضوء لمساعدة الحكومة لمواطنيها، فكل الوعود التي قطعتها حنثت بها وتنكرت لها، فلا ظهرت قسائم جديدة ولا بارقة أمل بدعم مادي، والشاطر يدبر حاله».

• المواطن إحسان صاحب شاحنة مرخصة لتوزيع المازوت، ويتبع لإحدى المحطات في جرمانا، يشرح معاناته قائلاً: «الترخيص الذي حصلتُ عليه لشاحنتي يخولني بتوزيع المازوت ضمن إطار لا يتجاوز حدود مدينة جرمانا الإدارية والمناطق التابعة لها، في الوقت الذي نجد هناك أناساً يحصلون على ترخيص لسيارات توزيع في أوقات ذروة الطلب على مازوت التدفئة، وهم بالأساس شبّيحة لا علاقة لهم بمهنة المحروقات، ولكن هناك من يدعمهم في المحافظة أو في مكتب الترخيص في مديرية التموين بريف دمشق، وهؤلاء ينافسوننا في الوقت الذي ننتظره لتعويض الكسر الذي وقع علينا أيام الصيف وقلة استجرار المازوت، ولهم صلاحية التوزيع في نطاق 80% من المحافظة، بينما تفرض القيود على شاحناتنا فقط». 

حلقة الوصل بين المنتج والمستهلك

محطات التوزيع وهموم كبيرة

- صاحب محطة توزيع محروقات (كازية) شرح لنا كل المشاكل التي تعاني منها معظم المحطات وقد أجملها بما يلي:

1- «مرت فترة طويلة نعاني من تفاوت المخصصات بين محطة وأخرى، وكان هناك بعض المحطات التي يتصل أصحابها مباشرة مع موظفين من الشركة العامة لتوزيع المشتقات البترولية (محروقات) كان لها الحصص الكبيرة من الاستجرار، وثبت فيما بعد فساد هذه المحطات وسرقة المازوت من شركة محروقات وتهربيه إلى الأسواق الخارجية، وبمقارنة بسيطة لسجلات شركة محروقات ستلاحظ الفارق الكبير بكميات الاستجرار لهذه المحطات قبل غلاء المازوت وبعده، وعندها سيتحدد بالضبط من هم ضعاف النفوس الذين باعوا المازوت للمهربين»

2- «المشكلة الأخرى التي عانينا منها في العام الماضي هي قسائم المازوت التي كانت عبئاً كبيراً علينا كما كانت عبئاً على الدولة تماماً، فقد تكلفت الدولة عليها في طباعة القسائم وتم سرقة الكثير منها أثناء التوزيع وسرقة الأكثر أثناء التداول بين الكازية والمستهلك، وبين الكازية وشركة محروقات، والأخطر من ذلك كان عملية تزوير البطاقات، حيث وصلَتنا الكثير من البطاقات التي ليس لها رصيد، وقد دفعنا ثمنها نحن من مبيعنا وأرباحنا، وأنا متأكد أن وراء عملية التزوير موظفين في الحكومة»

ثم تابع صاحب محطة الوقود كلامه بحسرة وألم على هذا الوضع المأساوي الذي وصلت إليه الصناعة النفطية في سورية فقال:

3- «المشكلة الأخرى التي ندفع ثمن تداركها نحن أصحاب المحطات النظامية، هي مشكلة أنابيب الجر التي تزود مستودعات شركة محروقات من مصافي النفط، وهذه الأنابيب قديمة ومتآكلة، ومنها ما يتجاوز عمره الأربعين عاماً، وبالأصل فإن طريقة تمديدها خاطئة ولا تتطابق مع المواصفات العالمية لتمديد أنابيب الجر، فهي إما ظاهرة أو قريبة من سطح الأراضي التي تمر بها وهذا يعرضها في كثير من المناطق الضعيفة أو الميتة للسرقة وبكميات كبيرة، ولم يتعلم القائمون على الأمر من أخطاء الماضي فكرروا الخطأ بمد خطوط جديدة إلى درعا والسويداء بحجة توفير أجور نقل الصهاريج، فأصبحت الكميات المسروقة تزيد عن كلفة وأجور النقل طيلة العام، فمثلاً بلغت كمية الوقود المسروقة خلال الشهور الستة الأولى من هذا العام 2009 مقدار 32 مليون ليتر من المازوت، وخسرت خزينة الدولة مبلغ ستمائة وأربعين مليون ليرة سورية، ولو تم النقل عبر الصهاريج لما كلفت عملية النقل ربع هذا المبلغ».

من يتجرأ على سرقة أنابيب الجر

تابع صاحب المحطة سرد هذه المأساة التي يتعرض لها الوطن كله فقال:

4- «إن السرقات التي تتعرض لها أنابيب الجر لا يمكن أن يقدم عليها شخص عادي، بل تنظمها عصابات تضم في عضويتها بعض السائقين من شركة محروقات وبعض موظفي المستودعات الذين يمدون منفذي عمليات السرقة بالمعلومات اللازمة عن صنف الوقود وساعات الضخ ومرور الدوريات التي تراقب التعديات الحاصلة على الخطوط ولكنها تمر مرور الكرام. والكثير من سائقي الصهاريج، إن لم يكن جميعهم، يسرقون الوقود من مستودعات الشركة علناً، حيث يقوم السائق برشوة مسؤول المزراب الذي يقوم بملء الصهاريج بمبلغ لا يزيد عن 200 ل.س، ويقوم بتعبئة خزاناته زيادة عن الكيل النظامي، ويملأ بعض الدبجانات الموجودة معه ثم يقوم بسرقة الكمية الزائدة في صهريجه ويبيعها مع الدبجانات لحسابه الخاص، وهذه العملية تسمى بالعرف بين السائقين «بالدبجنة» وهي مشتقة من كلمة دبجانة، وقد سمعت هذا الاعتراف الصريح من سائقي الصهاريج من خلال الأحاديث التي يتبادلونها ويتفاخرون بها أثناء الانتظار للتحميل، وهم أنفسهم السائقون الذين يسرقون من مزراب شركة محروقات، يسرقون من محطات التوزيع (الكازيات) بحيث يُبقون جزءاً من الصهريج دون تفريغ، إذا لم نتنبه له ليذهب ويبيعه أيضاً لحسابه الخاص»

روتين قاتل وابتزاز

5- حين مراجعة صاحب المحطة لموظفي شركة محروقات يتعرض لكثير من الابتزاز والتجاهل والإذلال، باستثناء الذين يدفعون (البخشيش) وبرواتب شهرية سرية للموظفين، تفوق أحياناً راتب الحكومة، ومازالت المعاملات بين المحطات والشركة المغذية تُدار يدوياً، ولم تعمل شركة محروقات حتى الآن على بناء موقع الكتروني يستطيع أصحاب الكازيات متابعة أرصدتهم واستجراراتهم ومدوَّراتهم من خلاله، تلافياً للازدحام كل شهر، ومواجهة الإهمال والإذلال والابتزاز. وأحياناً يتم إيقاف طلبية للكازية بسبب خطأ من موظف في حساب الفواتير، وقد يكون المبلغ تافهاً لا يذكر، ويحصل نتيجة الجمع أو الضرب، وتتعطل الكازية لخطأ لا ذنب لنا فيه، ويتأخر الاستجرار ريثما يتم كشف الخطأ وتصحيح الفواتير، وقد يستغرق هذا ثلاثة أو أربعة أيام، يبقى المواطنون خلالها دون الحصول على ما يريدون من الوقود، ويتهموننا بأننا نخبئ المازوت لغاية في نفس يعقوب، مع أن هناك بعض المحطات تعمل على هذا الأسلوب، وتخبئ وتحتكر المادة، ولكن السمعة تطال الجميع دون تفريق».

العلاقة المتعدية بين التخطيط والتنفيذ

ليست هذه المشاكل التي تواجهها بعض محطات توزيع الوقود، والتي تنعكس بالتالي معاناةً حقيقيةً للمواطنين، سوى انعكاسٍ لسياسات اقتصادية رعت الفساد ووسعت من نطاق انتشاره وممارسته، حتى بات يتحكم بكل مفصل من مفاصل حياتنا. فنتيجة رفع الدعم عن أسعار المواد الأساسية للحياة المعيشية، ارتفعت بشكل فاحش أسعار جميع المواد الاستهلاكية، وبات الجوع يهدد السواد الأعظم من شعبنا، وحين أصبح «كل واحد يدبر حاله لحاله» ويبحث عن الحل الفردي لمشكلة الفقر والعوز لديه، ويحاول تعويض النقص حتى بطرق فاسدة، إن كان بالرشوة أو سرقة ونهب المال العام، غضَّت الجهات الرقابية والمحاسبة النظر عن الكثير من الممارسات، بل وشجعتها أحياناً بالمطالبة بحصة (المعلم)، ما أوصلنا إلى الدرك الأسفل من المجتمعات المفككة التي تسير خلف أذيال الحضارة.

 

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.