زيارة إلى «شيوعي مزمن» عبد المعين الملوحي.. في أغوار ذاكرة متقدة

في إحدى حارات دمشق في منطقة تحمل الكثير من التاريخ بكل الزوايا توجهنا أنا والأستاذ محمد علي طه (أبو فهد) للقاء الشيوعي المزمن -كما يحب الأستاذ عبد المعين الملوحي أن يُسمى - بعد الكثير من الأسئلة التي فجرها كتابه الأخير «كيف أصبحت شيوعياً»..

 الأستاذ الملوحي: لم أستطع أن أضع كل ما أريد قوله داخل هذا الكتاب لقد كان هناك الكثير مما أريد قوله، لكنني أخذت أهم الأحداث ضمن تسلسل موضوعي لأصل إلى النتيجة التي أردتها من كتابتي لهذا الكتاب.. نتيجة تحرض على البحث وتحريك الكثير من الأمور الساكنة.

 ما هي القصص التي ربما كانت تغني كتابك أكثر؟

كنت أود أن أتحدث عن تجربتي في مصر أو بشكل أدق تجربتي مع الحزب الشيوعي المصري بشكل أكبر، فأنا من الذين ساعدوا على تأسيس الحزب الشيوعي المصري. ففي أحد الاجتماعات حرضت على فصل الشيوعي المصري عن اليهود الذين كانوا فيه، وقد قلت للشيوعيين الأوائل هل من المعقول أن يتحكم بالحزب الشيوعي اليهود،، وهذه أمور لا أريد التحدث فيها حقيقة،  أشياء لم أرد أن أنشرها. بالإضافة إلى قصص أخرى إحداها مع طه حسين. فبعد مقالة كتبتها  عن طه حسين استدعاني وذهبت إليه، وقال لي أنا أياسر لغاية المياسرة، وهذا أمر لا زلت أذكره إلى الآن وعلى ما أعتقد كان معنا في الجلسة رجل آخر من يساريي مصر ربما كان حسبما أذكر محمود أمين العالم قال: أنتم تقولون أنكم يساريون فأنا يساري أكثر منكم.

ما هي الاسلوبية التي اتبعتها في سيرك في صفحات هذا الكتاب؟

لقد حاولت أن أبسطه بقدر المستطاع، حتى يكون نظيفاً  وله هدف واحد. لقد اتبعت في أسلوبيتي في كتابة هذا الكتاب البساطة بالدرجة الأولى، أردت منه أن يكون كتاباً بسيطاً وطبيعياً، بعيداً عن الفلسفة، بعيداً عن التفاصح. وأنا عموماً في كل كتاباتي لا أتفاصح ولا أستخدم الألفاظ والكلمات المعقدة والضخمة، لأن هذه الألفاظ يستخدمها الناس الذين يريدون أن يختبئوا وراءها وأنا لا أريد أن أختبئ وراء شيء أنا أريد أن أفتح كل أوراقي، وأعتقد أن وضوحي هو الذي جعلني شيوعياً، شيوعياً من الناحية العاطفية قبل أن أكون شيوعياً من الناحية العلمية أو الفكرية.

ثم عاد بنا حديث التاريخ مع الأستاذ عبد المعين الملوحي إلى الكثير من الأماكن الخفية في الذاكرة. فحدثنا عن طفولته في حمص والكثير من الحوادث التي حفرت في ذاكرته في حارات حمص القديمة  مروراً بذهابه  إلى مصر. تحدث الأستاذ عبد المعين الملوحي بافتخار واعتزاز عن عائلته وعن أبيه شيخ جامع النوري الكبير وتربيته في الصغر، تحدث عن كل ما قاساه في حياته من الإقطاعية والرجعية، وأكد باستمرار أنه ليس من المهم أن يكون الحدث كبيراً بل المهم هو انعكاس هذا الحدث على النفس الإنسانية، قائلا:ً إن هذه الأمور تكشف عن شفافية الرجل وصدقه، وذكر أمثلة كثيرة عن طفولته وعن أمور دفعت به إلى اعتناق الشيوعية، وبعضها موجود في كتابه، فتحدث عن النساء اللواتي أرضعنه وهو صغير، وعن تربيته وعن أبيه الذي يرى فيه الكثير من المثل والقيم التي ورثها عنه، وتحدث عن كثير من المواقف الوطنية التي جرت في كثير من مفاصل حياته، وأردف قائلاً: «كلما اشتدت الأزمة أصبحت أكثر هدوءاً فإذا انتهت فأنا شديد التوتر، شديد الحركة».

استوقفتني هذه العبارة فسألته ذكرت في كاتبك هذه العبارة أيضاً، فهل تعتبر المرحلة التي نمر بها الآن مرحة نشاط جديدة بمعنى أنك خرجت من فترة الهدوء؟

لا …لا أعتقد أن الأمر اختلف كثيراً، فعندما تستمر الحرب عليك وتجد أن هناك الكثير من الجهات يحاربونك فأنا أفضل أن أحتفظ بالهدوء الذي تكلمت عنه، إلاّ أنني في مرحلة انتظار، وخاصة أن صداماتي كثيرة، فقبل يومين اصطدمت بأحد الأشخاص القذرين من ضمن الكثيرين ممن يشتركون في الحرب المعلنة ضدي.

خلال مراحل حياتك هل حاول أحد أن يكرمك ؟

في أحد الأيام كنا نريد أن نكرم كامل عياد، وذهبت إليه أنقل هذا الخبر فقال لي: كيف تريدني أن أكرم في ظل هذه الظروف، وكانت هناك أزمات كثيرة تحيط بنا. ومن هذا المنطلق، فقد جاء إليّ مجلس مدينة حمص عدة مرات لتكريمي ورفضت، في أولى المرات جاء المجلس ومعهم دانييل نعمة فرفضت فأقاموا  التكريم لشاكر الفحام، وفي المرة الثانية رفضت فكُرم عبد الكريم رفاعي، وتتالت المرات، لقد هداني كامل عياد لأن أتمسك بموقفي، نوّر فكري وأفهمني الكثير  من الأمور.

هل كان في تركك للحزب نظرة استشرافية لما يحصل في الحزب الشيوعي السوري الآن؟

أنا نفسي أستغرب كيف استطعت أن أقرأ ما كان من الممكن أن يحصل وأعتقد أن الموقف الذي أخذته وقتها،هو الموقف الصحيح، وأنه لم يكن بالإمكان أن أقوم بأي فعل آخر.

وهل كنت ترى أن التقسيمات و الانفصالات  التي حدثت في بنية الحزب فيما، بعد كانت انفصالات طبيعية؟

نعم أنا أرى ذلك. فمادامت قيادات الحزب تسير بهذا الشكل، لم يكن هناك بد من أن تحدث هذه الانقسامات، لقد قلت للشباب قبلاً ومنهم أبو فهد، لا يوجد مجال لأن تحركوا ساكناً في هذه الأحزاب لأنهم الآن يقبضون نقوداً، لقد أصبحت الشيوعية تقايَض بالنقود، لقد أصبح للحزب الشيوعي راتب ومعاش، إذا لم يكن هناك انقلاب جذري في سير هذه الأحزاب، فلا مجال لأن نحرك ساكناً فيها.

وأنا مسرور من خلال متابعتي لقاسيون ولميثاق الشرف وللحركة التي يقومون فيها، في بعث الحياة في هذه التنظيمات وفي فتح حوارات تبعث على وضع إشارات استفهام كبيرة وتفتح المجال للمزيد من الحوار الديمقراطي، بينما الآخرون لا زالوا مصرين على مواقعهم لأن القضية أصبحت مادية وضماناً للعيش، أصبحت سيارات ومكاسب.

إن كان هذا الداخل مغيباً لفترة طويلة - ولنقل منذ 55 سنة منذ تركك الحزب - وهذا الداخل يعتقد أن قياداته العليا، تقوم بكل ما هو صحيح فمن أين سيكون هذا التغير في حركة الحزب؟

وجود ناس كـ «قاسيون» وجماعتها، يمكن أن يغير الكثير، ربما بهدوء وليس بقفزات سريعة، شيئاً فشيئاً هذا الضباب سينجلي، لا يمكن أن يستمر، أنا باعتقادي، إن جميع التطورات الحاصلة، وكل هذه التغيرات وكل ما نشهده داخلياً وخارجياً، لا يمكن أن نرى بعده إلاّ أنفراجاً ما، أمام كل هذه التهديدات الخارجية لا يمكن أن نبقى، نسعى ونجادل  وراء القشور، وعلى جميع القوى أن تتوحد.

تحدثت في كتابك عن قضية نشر أسماء المتبرعين لجريدة الحزب فهل كان ذلك في الأربعينات أم في الخمسينات، لأن أمراً مشابهاً حصل في الخمسينات في جريدة النور؟

الذي تحدثت عنه في الكتاب كان في الأربعينات، عندما كنت أعمل في صوت الشعب، تقدمت وقلت للرفيق خالد  إنني أرى في  تسجيل الأسماء وطرحها بهذا الشكل خطورة كبيرة تستفيد منها أجهزة المخابرات، وأذكر أن هذه الحادثة تكررت في الخمسينات ونشرت بنفس الطريقة؟ لكنني أنا أتحدث عن الأربعينات، وأنا حقيقة لا أعرف ماذا حصل بالمطبعة الأولى (يضحك)

ويضيف: أعتقد أن المخابرات أيام الوحدة استعانت بهذه القوائم للقبض على الأسماء الموجودة فيها.

لقد واجهته وكتبت ذلك. قلت له عندما يحصل شيء لشعبك نحن علينا أن نتحمل السجون وفي الوقت الذي يجلس فيه أعضاء في حزبك في السجون من المزة وغيره أنت تغادر البلاد. لقد تحدثت عن كل ذلك.

إن الشيوعية تمر بالكثير من الأزمات، فأين يكمن الحل البديل للنهوض بالحركة اليسارية اليوم؟

البديل هو شيوعية حقيقية. الحل يكمن في الحزب الشيوعي فقط، حزب يعتمد الديمقراطية عموداً فقرياً له، وأساساً يبني عليه ليناضل في الطريق الصحيح، نحن نستطيع أن نشتري البهائم، لكن النفوس يجب ألاّ تشترى.

لقد رفعنا شعار «لا انقسام ولا استسلام» ومن خلال مناقشاتنا وفهمنا للواقع فإننا وجدنا أنه حتى يستعيد الحزب عافيته يجب أن يعود للجماهير لكي يكون المعبر الحقيقي عن مصلحة الجماهير، ورأينا في العودة إلى الشارع  الطريق الأصوب لذلك.

إن الحركات التي بدأت تظهر في الشارع وكنت من أوائل من دعا إليها هي دليل على ذلك، إنها طريقة من الطرق لكن يجب تفعيل كل شيء في سبيل التواصل، يجب تفعيل دورنا في الشارع من كل أطرافه وجهاته، في النقابات في الجمعيات. لقد سمعت قبل فترة ما حصل في نقابة المحامين وأنا لا أتحدث عن الشخص بعينه لكنني أتحدث عن الظاهرة كيف تستطيع نقابة أن تقف في وجه واحد من أعضائها وأن تصدر قراراً وكأنها تحاربه، بينما من المفترض أن تكون هذه النقابة المدافع الحقيقي والفعلي عن حقوق أعضائها وليست هي من تذبحهم، لذا يجب أن نكون فاعلين في كل الميادين وأن نفهم الشارع بمعناه الأوسع.

لقد كان بإمكانك أن تقود أول انفصال، لكنك رفضت ذلك وهذا يشبه التجربة التي يعيشها الحزب الآن بشكل أو بآخر؟

لقد قابلت واحداً من قيادات الحزب قبل فترة وقد قال لي:  يا أخي فليعودوا إلى الحزب نحن لم نطردهم، فأجبته تريدهم أن يعودوا كي تطردوهم أنتم هذه المرة.

إنني أرى أنه في هذا التضامن وفي هذا الشعار الذي رفعتموه هو التوجه الصحيح، عندما تركت الحزب كنت أعتقد أنه  يمكن أن يعدل الحزب مواقفه ويتابع دون الكثير من الخسائر، ولكن الكثير من الأشياء التي تخيلتها لم تحصل، وانتظرت إلى الآن حتى أرى شيئاً شبيها بما فكرت فيه يدخل حيز الوجود.

هل من الممكن أن تتوحد صفوف الشيوعيين؟

إن  شبح الاتحاد السوفييتي السابق الذي نراه الآن، ذلك المارد المتهاوي لا يمكن أن يستمر، أعتقد أن هناك الكثير من الأمور التي يجب أن تتغير وأظن أن ذلك ليس ببعيد.

من هذا التفاؤل، هل نستطيع أن نطلب منك أن تتوجه بشيء يشبه النداء إلى الشيوعيين؟

 

 أنا أهيئ فعلاً للنداء لكل الشيوعيين، نداء صادق وعميق، وعناصره موجودة وأريد أن أستعين بكم لأسألكم في الكثير من الأمور. وأنا في صدد إعداد نداء لكل الشيوعيين لكي يتوحدوا، من جديد.

آخر تعديل على الأربعاء, 09 تشرين2/نوفمبر 2016 17:46