البنى التحتية السورية.. من الذي يجثم فوقها؟

غرام الذهب وصل إلى 1360 ليرة سورية، وتفاؤل (لا أرضية متينة له) يسود الأوساط الاقتصادية الحكومية بأن التضخم لن يتجاوز 5%.. تداولات سوق دمشق للأوراق المالية تبلغ 31 مليون ليرة سورية، ومدينة حسياء الصناعية ومركز الأعمال السوري يتفقان على دعم المستثمرين. المؤتمر الثالث للحكومة الالكترونية يبدأ أعماله.. وزارة المالية تدرس توحيد الرسوم الموجودة على فاتورة الهاتف.

عناوين للصحافة الاقتصادية في سورية، يثير البعض منها للوهلة الأولى بعض الأمل، وبعضها يدفع باتجاه التريث على صعيد استشراف المستقبل الاقتصادي الذي يضع دفة سيره في عالم تهزه الأزمات فريقنا الاقتصادي.. وقلما يظهر صوت الإعلام الحقيقي.. صوت الوجع الحقيقي..

 في كل هذا الزحام الاقتصادي، ما يثبت على الأرض هو ما يؤكد الخطوات الصحيحة لبناء اقتصاد متين، أهم ما فيه مدى ما ينعكس من فوائده على الناس.
البنى التحتية للاقتصاد السوري، وللمجتمع الذي يعيش على نجاعة التخطيط لحياته على أساس نجاح التخطيط لبنى متوازنة وثابتة هي من يصنع السؤال المؤرق: ماذا صنعنا لها، وكيف صنعناها؟
الزراعة- التعليم- الصرف الصحي- الطرقات- الصحة- التلوث- الكهرباء- الاتصالات(الانترنت- الخليوي)- الحفريات - العقارات، مجموعة خطوط عريضة تساهم في الإعداد لبنية تحتية متينة تصنع واقعاً اقتصادياً واجتماعياً متوازناً إن أحسنا تهيئتها، والنقيض المترهل، المشكلة إذا أسأنا.

 

40 بليون دولار لمشاريع البنية التحتية

(أعلن مدير هيئة الاستثمار السورية أحمد عبد العزيز، حاجة بلاده إلى استثمار 40 بليون دولار في البنية التحتية في السنوات الخمس المقبلة، وأوضح أنها تعمل على تأمينها من خلال طرح مشاريع للاستثمار).. ولفت في حديث إلى وكالة (يونايتد برس إنترناشونال)، على هامش زيارة للندن بدعوة من غرفة التجارة العربية – البريطانية، إلى أن سورية: (تحتاج في شكل ملح إلى 3000 ميغاوات كهرباء، وإلى بناء طرق سريعة وتطوير القطاع الزراعي).

ورأى أن (الاستثمار هو الرهان شبه الوحيد حالياً بالنسبة إلى معظم الدول، من بينها سورية،  وأكد تأمين الجوّ المطلوب أمام المستثمرين لتوظيف أموالهم في سورية من خلال اعتماد مبدأ النافذة الواحدة، والذي يتيح أمام المستثمر تنفيذ أعماله في مكان واحد، من دون الحاجة إلى مراجعة أكثر من وزارة ودائرة حكومية، مشيراً إلى أن سورية أطلقت الخريطة الاستثمارية المتضمنة معلومات عن الجوانب الاقتصادية والبشرية والطبيعية والسكانية والاستثمارية، وهي الدولة العربية الأولى التي تطلق هذه الخريطة وتقدم للمستثمر معلومات).

 

ما قبل الخيار

الخيار والرهان الوحيد هو الاستثمار، نعلم جميعاً كم العثرات التي اعترضت الاستثمار في البنى التحتية وسواها، والأسباب التي أدت إلى عرقلة بعض من أهمها، بدءاً من القوانين الناظمة لهذه الاستثمارات والبيئة القانونية، وصولاً إلى عدم رغبة البعض في تمريرها لأسباب مختلفة.
ما قبل هذا الرهان الوحيد، فرطنا نحن في مشاريع رائدة لو أنجزت ولو لم يعمل فيها الفساد وعدم المحاسبة.. لكنا انتهينا الآن إلى عدم ترداد شكوانا الدائمة عن بنية تحتية بحاجة إلى تأهيل أو استثمارات، إضافة إلى رغبة المال الوطني في الاستثمار في العمل القليل والربح الكثير، دون أن يدخل في أنفاق لا نهاية لها.
لهذا استثمر البعض في النقل، السياحة بكافة أنواعها ومتمماتها، تجارة الآلة الحلم.. السيارات، أما على صعيد ما يثبت في الأرض وعليها، ويعود بالمنفعة الحقيقية على الناس، فالرواية كما يلي.

 

التخديم التحتي للزراعة

لأننا بلد زراعي كما تعرفنا كتب التاريخ، ولأننا دون صناعات رئيسة، وثرواتنا على قدنا، نحن بلد زراعي، ودخلنا القومي يعتمد على الزراعة، النسب المفزعة تقول إن التصحر يحتل 59% من أراضينا، وإن مياهنا السطحية والجوفية تتراجع، وإن قرانا الزراعية تحولت إلى مراع، وإن فلاحينا يعتاشون على القروض، وإن تجربة القمح في سورية تتعرض لمصاعب ليس آخرها موسم 2007-2008 المتراجع، وإن الـ4.5 مليون طن حلمنا القمحي  تناقص إلى نحو 1.5 مليون طن في فترة عامين.. فماذا قدمت الحكومة من  طرقات زراعية وسدود وأقنية وآليات؟؟
الجمعيات الفلاحية ضرب الفساد فيها، والأسمدة الغالية أفقرت الفلاح، وحتى المطر له حصة لا بأس فيها من ضرب خططنا الزراعية، وأن وزارة الزراعة ومديرياتها ترى في الزراعة داعماً رئيساً لاقتصادنا الوطني.

الحكومة وبعد سياساتها وكارثة الجفاف اللتين رحلتا آلاف الأسر السورية من الجزيرة وما حولها، بدأت بإرسال سلال الغذاء للقرى المتضررة، والتقارير الدولية تتحدث عن 160 قرية هجرها أهلها نتيجة الجفاف أولاً، والنظرة الاستشرافية لحكومتنا..

 

التعليم

من مجانية التعليم ليس كنظرية، بل كواقع، واقع شكل لدينا الآن هذه اللغة التي نكتب فيها عن شكل التعليم، إلى تعليم صار تجارة واضحة واستثماراً فقط، استثماراً في أموال الناس لصنع أجيال بإمكانها إن تعلمت  - لو تفهم الحكومة - إعانة الوطن على مصاعبه.
الاستثمارات التي فتحت أبواب الجامعات في كل محافظة، بعد أن كانت أربع جامعات حكومية تسد الحاجة مع الاعتراف ببعض الصعوبات، وفي الوقت نفسه لم تبق مدينة صغيرة أو حتى قرية يمكن فيها الاستثمار إلا وانتصبت مدرسة خاصة نموذجية وبأسعار خرافية فيها، هذا عدا عن المعاهد كل في اختصاص، ودورات صيفية ونصفية، وأساتذة خاصين يعدون الساعات الدراسية لجيل لم يعد التعليم الحكومي يلبي حاجته.

من أين لمن يئن تحت رحمة الدخل المحدود، والعيشة الضنكة أن يجد مالاً لتعليم أبنائه، بعض التعساء قالوا: إننا بالكاد نؤمن لأبنائنا مصاريف التعليم الحكومي.

 

الصحة

كما التعليم كان قطاع الصحة أماناً وثروة للناس، المشافي العامة التي يصمها البعض الآن بالمسالخ خرجت كل كفاءاتنا الطبية، تدرب في مشافي وزارة التعليم العالي كل طلابنا، كان المواطن يعرف أن الطريق إلى المشفى لا يعني الموت فقراً قبل الموت جسداً.
على الوتيرة نفسها دخل الاستثمار في بنية قطاع الصحة كالوباء، أطلقت على المشافي الخاصة كل أسماء الرحمة والعناية والملكوت، لكنها ونحن نقرأ يومياً عن أخطاء قاتلة، مارست كل أساليب الابتزاز المادي للناس، من لم يرعبه رقم الفاتورة لعلاج كسر في يد طفله، أو فاتورة ولادة قيصرية، الأدهى أن الاستثمار دخل حتى قلوب الأطباء الذين يحملون المرضى بالنصيحة والمحبة إلى سرير دافئ ودور سريع لإجراء عملية قلب مفتوح بـ 400 ألف ليرة فقط.

نقر بأن المشافي العامة مزدحمة، وهناك بعض الأجهزة غير مؤمنة لديها، وأن موظفيها قد لا يعملون بنظام المشافي الخاصة، وملائكتها تنهر المرضى، ونظافتها على قدها، وبعضها أكل الفساد فيها دواء المرضى الذين يتهيئون للموت كما في فضيحة البيروني، , وأن مواعيد الزيارة ليست محترمة والبواب هو صاحب القرار بإدخالك متى شئت بخمسين أو مئة ليرة، وأن كلمة الحمد على السلامة من فم ممرضة أو مستخدم ثمنها مدفوع من الجيب.. لكنها أرحم من الموت خارج أسوار المشافي الخاصة.

 

الطرقات وما تحتها

في رحلة تقودك إلى الأرياف التي تتشابه، مدننا، بالكاد شارع رئيسي واحد قد يكون على ما يرام، وعلى مدار السنة تنشغل الوحدات الإدارية، متعهدوها، ورشاتها، مناقصاتها، فتتحسن صورة شوارعنا، في تعبيد شارع يصلح لعبور السيارات والبشر، الحفر سيدة التشابه بين قرانا ومدننا، البعض يعزو ذلك إلى إرادة الله في توزيع الأرزاق فلولا الحفر لما عمل واستفاد الميكانيكي والحداد والدوزنجي.

لكننا نعلم أنها إرادة الفساد أولاً الذي يستثمر حتى الحفر في دورة دائمة للصرف، من أرصفة مجددة ببلاط سيء لا يكاد يثبت حتى يتكسر، إلى إصلاحات مفاجئة لبقية المؤسسات من كهرباء وماء وصرف صحي.
الصرف الصحي مما ينام تحت الطرقات، مشاريع يختلط فيها الحلو مع المالح، الفساد الذي يشكل الأوبئة القاتلة..والجيوب المنتفخة.

 

الكهرباء

قصة الكهرباء المضجرة تنتهي فصولها اليوم مع قرار وزاري بموافقة الوزارة على تخديم سكان المخالفات والعشوائيات على أن يتحمل هؤلاء تكلفة توسعة الشبكة بنسبة في مجملها تتراوح بين 70-100%، وكأن المواطن هو الدولة، وكأنه السبب الوحيد في انتشار المخالفات، ويغيب عن أصحاب القرار من صنع تلك العشوائيات، ومن أوصل الناس لسرقة الكهرباء واختراع الوسائل لإخفاء سرقاتهم.

هل هي بنية المواطن في مد اليد على أملاك الدولة، واستحلال رزقها، أم أن العجز في تأمين الشبكة الجيدة، والعدل في حساب الاستهلاك، والعدل في القصاص هما السبب.
من التقنين إلى الذروة إلى التصدير كانت دورة الغرابة في قصة الكهرباء في الأشهر المنصرمة، ساعات من التقنين في ذروة الحر، إلى رمضان مضاء على ليله ونهاره، على فائض مفاجئ غير مبرر.
على صعيد البنية الكهربائية ثمة مشاكل في سد الفاقد الكهربائي خارج لعبة تحميل الفواتير المخيفة، المحطات الكهربائية الحرارية فجأة يمكن أن تقف بسبب قدمها وإهمال صيانتها، الشبكة التي تتطاير مع الهواء، شبكات التوتر العالي والمتوسط والمنخفض فوق تجمعات الناس.
الاستثمار في الكهرباء قادم لا محالة، رغم بعض الأصوات التي وصفته بالكارثة.

 

التلوث

على حافة الاختناق، من البصر إلى الرئة إلى الأذن، إلى ما يدخل الفم من ماء وطعام، دمشق تنام تحت سحابة من التلوث، غيمة سوداء تجثم على صدر أقدم مدينة في العالم.
من معمل اسمنت عدرا، إلى مشروع الصرف الصحي الذي يخترق الغوطة نافثاً رائحته وموته على طول البساتين التي كانت، والبشر المحيطين.
السيارات التي غرقت بها الشوارع الضيقة، السيارات التي فتحت الدولة لمستثمريها لأن يمتدوا على طول الطرق الخارجية والداخلية بوكالاتهم، محلاتهم، كل السيارات بأنواعها البخسة والغالية تسير في شوارعنا، تنفث بقايا احتراق المازوت القاتل..ونختنق.
بردى يتوارى خلف نبعه ويتحول إلى ساقية سوداء محزنة، آبارنا تغور ومياهنا تتلوث من نفاياتنا ومطامرنا، من الصرف الصحي الذي يسقي ما نأكل.
إصلاح النقل الداخلي سمح بتجريب الباصات الصينية والجرادين البيضاء في هوائنا، ولم تنته بعد رحلة البحث عن حلول، ولم ينته اختناقنا.

 

الاتصالات

لم يزل الهاتف الأرضي حلماً عند بعض السوريين، توسعة شبكات لتوفير خطوط لمن سجل على هاتف عادي منذ عشر سنوات، ما زالت مؤسسة الهاتف تحسب على فاتورتها رسوم الاشتراك والكاشف و الانتظار وخدمات الأصفار القطرية والدولية.
بعد أن صار الخليوي مثل اليد والأنف لمواطننا، ما زالت شركتان توءمان تشتركان في ترغيبنا بالخدمات وتخفيض الأسعار وحتى الإعلان عن ميزانيتهما.
ما زال الانترنت يروح ويأتي، وما زالت مخدماته تعلن عن عروضها بسرعة من 30-56 كيلو بايت، ما زال الانتقال من صفحة لأخرى يمنحك بعض الوقت لإغفاءة، وما زال سبب الانقطاع المفاجئ مجهول السبب.
منذ شهرين وينتظر السوري تجزئة تعرفة الدقيقة الخليوية، لماذا لا تحتسب بالثانية، وفي سهرته يرى ويسمع عروض الشركات في العالم القريب الذي كنا ننعته بالبداوة والجهل ذات يوم مضى.

 

البقية..

العقارات هي من شكل بداية أزمة العالم الاقتصادية، الأزمة التي لم نتأثر بها حسب زعم بعض مسؤولينا الاقتصاديين، وباحثينا أيضاً، الأزمة التي أفلست بنوك وشركات وسرحت ملايين العمال على امتداد العالم.
العقارات في بلدنا ما زالت مزدهرة، في أسوءأأحوالها لم تهبط أو تعلو أسعارها، دمشق بين أغلى مدن العالم، والاستثمار العقاري يشهد ألقاً في حين يقف المواطن على أبواب البنوك ليقتطع من راتبه ما يمكن أن يمنحه قرضاً لبيت صغير.
البنى التحتية تعني كل ما يخدم الأرض والناس، ليس فقط ما يخدمهم ليعيشوا ولكن لكي يترك في المستقبل وطناً يمكن الحياة فيه، وطن يمكن أن تتنفس وتأكل وتنام وتموت على أرضه..بهدوء مطمئن.؟