كم ستخسر الخزينة عند الخصخصة؟!!

إن أول ماستخسره الخزينة السورية في حال استمرت بسياسة الخصخصة الظاهرة حيناً والمبطنة حيناً آخر هو:

■ قيمة الاهتلاكات، ضرائب الأرباح، الأرباح بعد الضرائب

■ الدعم الذي كانت تدفعه هذه الشركات نيابة عن الدولة

■ وستخسر التأمينات الاجتماعية التي كانت تحولها

يمكن حساب هذه المبالغ اعتماداً على حسابات قطع الموازنة التي تخفيها الإدارة الاقتصادية عن الجمهور والاقتصاديين دون حق بدقة كبيرة، فكيف ستعوض الخزينة هذه الموارد؟ رفد القطاع العام الصناعي الموازنة بـِ 12557 مليار ل.س خلال الأعوام 1987 – 2003 كما تقول مذكرة لوزارة الصناعة أنجزت عام 2005 (المصدر: غصون سليمان ـ جريدة الثورة ـ تاريخ 31/تشرين الأول 2005، صفحة 5) وفي الوقت ذاته تشمل شركات الأغنياء بالقانون رقم 10 بحيث لا يدفع هذا الفعيل المقتدر مالياً ما عليه من ضرائب؟ فكيف ستحصل الخزينة على موارد؟؟؟ لا يبقى أمامها إلا إرهاق أصحاب الدخل المحدود بضرائب إضافية تثقل كاهله المثقل كثيراً، وبالاستلاف من الخارج، كما تفعل دول عربية ونامية أخرى، فترهن استقلالها الاقتصادي والسياسي، وترهن مستقبل الأجيال المقبلة، الذين سيدفعون ويسددون هذه الديون.

 

تشتكي شركات القطاع العام والخاص بحق، من ضعف خدمات البنية الفوقية والتحتية وكذلك الرأسمال الراغب في الاستثمار في سورية، مثل توفر مدارس مهنية مجهزة مثل مثيلاتها في الدول الصناعية، لتستطيع تخريج العمال والمؤهلين نظرياً وعملياً. وتوفر خدمات المدن الصناعية على كامل مساحة القطر وتوفر شبكة عصرية كثيفة من الخطوط الحديدية إلخ. فأين هي الموارد للخزينة لتمويل تأمين ذلك كله بجودة وكثافة منافسة للدول الصناعية وغيرها؟ القطاع الخاص القائم فعلياً. والذي عمل وما يزال، ضمن هذه السياسات التي تشل قوى الإنتاج عنده، عوضاً عن تفعيلها، يطلب بحق إزالة المعوقات من طريقه. وهو مستعد لدفع ما عليه من ضرائب، شرط توفر عدالة التوزيع وإحقاق دولة القانون. أما الرأسمال المهاجر، الذي يضع كل هذه الشروط ومعه الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية والعديد من منظمات الأمم المتحدة، فهو يريد أن يصبح الاقتصاد في يده على صينية من ذهب، دون أن يخاطر أو يدفع الضرائب. لن يستفيد القطاع الخاص من الخصخصة، لأن رموز الفساد ستتولى عملية البيع وتأخذ عمولاتها إلى مصارف الدول الأجنبية في مكان "أمين" بالنسبة لها. لقد تم اختراع صيغ متعددة للخصخصة من بيع مباشر إلى تأجير أو استثمار إلخ. لا يحتاج القطاع الخاص الوافد، إلى دفع رؤوس أموال تذكر، لأنه سيشرف على شركات قائمة. وتكفيه مبالغ متواضعة. الأرباح له دون ضرائب وإن خسرت الشركة، يستطيع أن يتحجج بمشاكل الشركة القديمة. لن تخلق فرص عمل جديدة، ولن تفد رؤوس أموال جديدة تذكر، فأي منفعة للاقتصاد بذلك؟

لماذا يخاف الرأسمال الوافد من منافسة شركات القطاع العام؟ رغم كل ما يدعيه من أنها "تنازع" وأنها مهددة بالانهيار من تلقاء ذاتها؟ هل يريد أن يبدأ بالاحتكار لصالحه؟ وأية ليبرالية هذه التي لا تقبل المنافسة، ولا حتى من شركات ضعيفة اقتصادياً كما يزعم؟ أم أن المطلوب تدمير شركات قائمة، بحيث يضعف الاقتصاد ككل؟ هل بوسع اقتصاد تبلع البطالة فيه قرابة 50% من القادرين على العمل التفكير بالخصخصة؟ أليس ترفاً مجرد التفكير بمثل ذلك؟ كم سيصبح عدد العاطلين عن العمل في السنوات العشر القادمة؟ سيضاف جيش من العاطلين عن العمل كل عام، بأكثر من ربع مليون وسطياً. وسيبلغ قوام هذا الجيش 3 مليون فكيف سنواجهه؟ ماذا فعلت دول مثل ألمانيا بعد أزمة الكساد الاقتصادي الكبير عام 1929؟ رفعت الدولة استثماراتها إلى حد كبير، فأنشأت عشرات آلاف الكيلومترات من الطرق النمطية الجيدة (أوتوبان) ودعمت التعليم الفني (بوليتكنيك) إلخ. ولم تترك الأمر للقطاع الخاص وحده. كلما ازدادت استثمارات القطاع العام، كلما ازدادت استثمارات القطاع الخاص أيضاً، لأن الكثير من شركات القطاع الخاص، تعمل كمتعهد ثانوي للقطاع العام. وينجم عن زيادة استثمارات القطاع العام، استثمارات إضافية في القطاع الخاص لا وراء الطلب الناجم عن تأمين مستلزمات الإنتاج للتوسع في الأعمال، ولتأمين الطلب الاستهلاكي، تبعاً لزيادة الدخل، لمن دخلوا أسواق العمل لأول مرة، كنتيجة للتوسع في استثمارات القطاع العام إلخ. تتفعل الدورة الاقتصادية. ويتفاعل مضاعف الاستثمار، ليشد معه القطاعات الأخرى. منذ أيام كينز تم التركيز على التمويل بالعجز، لمواجهة الكساد الاقتصادي. ونحن نعاني من كساد كبير نتيجة للسياسة الاقتصادية الخاطئة المتبعة، بكبح جماح وتقليل استثمارات القطاع العام. عندما تتراجع الدولة عن الاستثمار، يتراجع القطاع الخاص أيضاً عن الاستثمار، وليس العكس كما تزعم الإدارة الاقتصادية!

من الرشيد تشجيع القطاع الخاص على التوسع والاستثمار، فيشيد شركات ومصانع جديدة، فيخلق فرص عمل إضافية جديدة، فتقدم له التسهيلات الضريبية بتحفيض نسبة الضريبة، وليس بالإعفاء 100% فهذا تفريط خطر بموارد الدولة الأساسية، ويضعف قدرتها حتماً على توجيه دفة الاقتصاد. وعبر تسهيلات مصرفية وبرفع حجم التسليف وتخفيض الفوائد بحيث تتحمل خزينة الدولة جزءاً منها إلخ. وبعد توجيهه إلى الخريطة الاستثمارية البعيدة المدى، التي تعدها الدولة، فأين هي هذه الخريطة؟ فلا يتوسع القطاع الخاص الجديد في مجالات، لا تفيد الاقتصاد الكلي بل تشوه بنيته، كالتوسع في الخدمات السياحية، التي تجمد رأسمالاً ضخماً، وتحول قطرنا إلى منتجع سياحي للغرب. وليس إلى ميدان إنتاجي في القطاعات السلعية من زراعة وصناعة إلخ. هنالك صناعات استراتيجية ليس من مصلحة للقطاع الخاص أن يتحمل وزرها على الدولة أن تتحمل المشاريع ذات المخاطرة الأكبر والمردود الصغير. للقطاع الخاص أن يتجه إلى الاستثمارات، ذات المخاطرة الأقل، والمردود الأعظم كما يحلو له. فمن حقه أن يعظم أرباحه ومنافعه. ولا نستطيع أن نعتب عليه ذلك. في حين على الدولة أن تعظم المنافع العامة ولو كانت أرباحها صغيرة، مثل أن تضمن الأمن الغذائي والأمن النقلي والأمن الصناعي، بإنتاج مستلزمات ضرورية للبنية التحتية ونحن معرضون للحصار الاقتصادي وللغزو في كل لحظة. على الدولة أن تعمل انطلاقاً من استراتيجية للتنمية الصناعية، بما في ذلك الصناعات ذات التكنولوجيا العالية والتي قد تكون ذات مخاطرة عالية جداً بالنسبة للقطاع الخاص وربحية متواضعة، فما الذي سيدفعه للتوجه إليها؟ على الإدارة الاقتصادية للدولة أن تتحمل العبء الأكبر للتنمية الاقتصادية. والقطاع الخاص، يختار ما يناسبه من مشاريع رديفة مربحة مجزية. تفد الاستثمارات الخارجية إلى اقتصاد معافى مزدهر. وليس إلى اقتصاد ضعيف. واقتصادنا ضعيف، ليس لأن مواردنا الاقتصادية قليلة، بل لأن السياسة الاقتصادية، تشل قوى الإنتاج في القطاع العام والخاص، عوضاً عن تفعليها. لا يمكن للاقتصاد الخاص أو الرأسمال الوافد، أن يحل محل الدولة، بل بوسعه، أن يكمل ما تبدؤه من مشاريع، يتحمل هو مخاطرة متواضعة، ويأمل ربحاً أعظمياً. هذه طبيعته ولن يتغير. علينا أن ننطلق من ذلك مهمة الدولة القيام بالاستثمارات الضخمة والضرورية، والتي قد يكون مردودها الاقتصادي صغيراً. لكن القطاع الخاص لا يقدم عليها، وليس لنا أن نلومه على ذلك. لا يجوز أن نستسلم لإملاءات منظمة التجارة العالمية، بأية حال. لقد ظلت الدول الغربية تتفاوض زهاء نصف قرن، حتى صممت هذه الاتفاقية، بما يخدم مصلحة اقتصاداتها. نحن لم نكن طرفاً في هذه المفاوضات. لذلك مصالحنا، لم تناقش أصلاً. إن فعلنا ذلك، فهذه جريمة بحق الاقتصاد الكلي، بشقيه القطاع العام والخاص، لأنهما غير مهيئين لدخول هذه الاتفاقية. يجب إرجاء طلب الدخول حتى يتم تأهيل الاقتصاد، وتحقيق وحدة الأمة العربية، والشراكات الاستراتيجية، مع الدول الصديقة، كي نكون في وضع تنافسي جيد، يحقق مصلحتنا. تطالب منظمة التجارة، بمساواة الرأسمال الأجنبي بالرأسمال الوطني. لا يجوز ذلك إطلاقاً في هذه المرحلة. لقد دفعت الدول الصناعية مئات مليارات سنوياً، لدعم شركاتها، حتى أصبحت قوية جداً بل ومدمرة لشركاتنا، إذا تركا وجهاً لوجه في المنافسة غير العادلة، دون دعم الدولة. لا يوجد تكافؤ فرص، بين شركاتهم وشركاتنا. شركات الدول الغربية الاستعمارية، اغتنت بنهب ثروات الدول النامية، ومنها وطننا العربي، وبدعم الدولة لها. تحجم الدول الصناعية، عن تنفيذ بنود اتفاقية التجارة الحرة، عند تعارض ذلك مع مصلحة اقتصادها. في حين لا نستطيع نحن إلا الانصياع لبنود هذه الاتفاقية، إذا وقعنا عليها بسبب ضعفنا.

ماذا تربح الدولة من بيع شركات قطاع عام رابحة؟ أو تأجيرها؟

لن تربح شيئاً ولن يربح الاقتصاد الكلي، إذن لماذا نفعل ذلك؟ ولمصلحة من؟ سلكت اليابان بعد الحرب طريقاً رأسمالية. لكنها كانت تشيِّد المصانع والشركات، وتتحمل هي الأعباء والمخاطرة. وبعد نجاحها تبيعها للقطاع الخاص، وتنشئ غيرها. هكذا، حتى حققت العمالة الكاملة حتى 100% من القادرين على العمل!

ليست حل مشكلة البطالة من مهمات القطاع الخاص، في أي بلد رأسمالي. هذه مهمة الدولة، مهما كان نظامها الاقتصادي. يحصل القطاع الخاص على العمال، بأجور متدنية عند ارتفاع البطالة.

عندما يحجم القطاع الخاص والمشترك والتعاوني عن الاستثمار المطلوب اقتصادياً، لتحقيق تنمية مرتفعة، ولحل مشكلة البطالة، على الدولة والقطاع العام، أن تسد الثغرة، فيملأ الفراغ الناجم عن أحجام القطاعات الأخرى عن الاستثمار، باستثمارات مباشرة، لضمان الوصول إلى عمالة كاملة 100% نحن بعيدون جداً عنها، ولزيادة معدل التنمية الاقتصادية. يستمر القطاع الخاص لاحقاً، بعد أن يُفعِّل القطاع العام الطلب الكلي الاستثماري والاستهلاكي، باستثمارات مكملة، عندما يرى أن عجلة الاقتصاد تدور دونه، وأنه سيخسر فرص ربح مجزية، إن لم يستثمر. سيخسر فرص ربح كانت متاحة، ولم يغتنمها.              

 

■ د. نزار عبد الله