داريا تدخل حيز الاستثمار بعيداً عن أهلها
عقد في منتصف الأسبوع المنصرم اجتماع موسع ضم عدداً من الوزراء بالإضافة إلى محافظي دمشق وريف دمشق مع مديري الخدمات الفنية في المحافظتين، وذلك في مدينة داريا على أثر جولة تفقدية للمدينة، وذلك من أجل إعادة تأهيلها.
الاجتماع والجولة ضمت كلاً من وزير الأشغال العامة- وزير الإدارة المحلية والبيئة- وزير الإسكان- وزير الصحة- محافظ دمشق- محافظ ريف دمشق، بالإضافة إلى مدراء الخدمات الفنية في كل من محافظتي دمشق وريف دمشق.
تخصيص مبالغ لإعادة التأهيل
الغاية من الجولة الميدانية والاجتماع المذكور، حسب ما تم الإعلان عنه عبر وسائل الإعلام، كانت: البدء بإطلاق عملية إعادة تأهيل البنى التحتية والمنشآت العامة والشبكات في المدينة، حيث تم دراسة المخطط التنظيمي الجديد لوصل ريف دمشق بدمشق مع الربط الوظيفي والاستثماري وتسهيل عملية الانتقال بينهما، مع تكليف المؤسسات الخدمية المعنية بإعداد الجداول وتقييم الأضرار التي لحقت بالبنى التحتية والمرافق الصحية والتربوية والخدمات العامة والطرقات وشبكات الكهرباء والمياه، حيث أعلن عن تخصيص المبالغ اللازمة للبدء بالعمل.
كما تم تقسيم المدينة إلى قطاعات ليصار إلى العمل فيها بشكل متتال ومتواصل بالتعاون مع الشركات الإنشائية العامة، التي ستقوم بإعادة تأهيل البنى التحتية بالمدينة بالشكل اللائق، حسب ما أعلن عبر وسائل الإعلام الرسمية.
طغيان المشهد الاستثماري
اللافت بالاجتماع هو: ما تم الإعلان عنه على لسان محافظ ريف دمشق بأنه تم عرض الدراسات المتعلقة بإعادة تأهيل وتنظيم مدينة داريا حسب المرسوم 66 الذي صدر لتنظيم منطقة خلف الرازي بالمزة، وما أشار إليه محافظ دمشق حول أهمية التنسيق بين محافظة المدينة والريف فيما يتعلق بالمناطق التنظيمية، من حيث التصميم العمراني وإدارة التنفيذ الواحدة عبر فريق مشترك يعمل على التشبيك بين المحافظتين على مستوى إعداد المصورات التنظيمية.
اللافت أكثر هو كثافة حضور مفردات إعادة الإعمار والاستثمار والمخططات التنظيمية بشكل كبير، وغياب الحديث عن الأهالي والعودة وتأمين سبلها، أو المرور عليها مرور الكرام بشكل خجول، وكأن الأمر لا يعني هؤلاء.
تطبيق المرسوم 66 بمعزل عن الأهالي
ما من شك بأن إعادة التأهيل على مستوى البنى التحتية وعلى مستوى تأمين الخدمات هو بداية منطقية لا بد منها من أجل عودة الأهالي إلى بلدتهم التي نزحوا منها اضطراراً بنتيجة الحرب وتداعيتها، التي أتت عليهم بالتشرد وعلى بيوتهم بالتهدم الجزئي أو الكلي، ناهيك عن التداعيات السلبية العديدة الأخرى، بما فيها ما جرى لممتلكاتهم من عمليات سرقة وتعفيش على مدى سنين الحرب، وخاصة خلال الفترة القريبة الماضية، ولكن أن يتم الحديث عن إقرار العمل بالمدينة وفق أسس المرسوم 66 من حيث المخططات والتنظيم والاستثمار بظل غياب الأهالي، وعدم تواجدهم في بلدتهم، يحمل في طياته تداعيات وإشكالات كبيرة، قد تلحق الضرر بمصالح الكثير من أبناء البلدة، ومالكي الأراضي والعقارات، وأصحاب المعامل والورش والحرف في المرحلة التي سبقت الحرب والنزوح والتشرد.
لجان الوصف والحصر لا عمل لها
للتذكير فإن المرسوم 66 حسب نصوصه، يبدأ من حيث التطبيق والتنفيذ بـ لجان الوصف والحصر على سبيل المثال، وهذا الوصف والحصر هو عمل ميداني تقوم به هذه اللجان عن طريق القيام بجولات مكانية على الأراضي والأبنية والمشيدات والمقيمين فيها، عبر جرد المساحات وتنظيم جداول ومخططات رسمية واسمية، من أجل لحظ حقوق هؤلاء بالحيز المشغول فعلاً من قبل كل منهم، ملكاً أم إيجاراً أم استثماراً أم وضع يد، وغيرها، مع الأخذ بعين الاعتبار ما هو مسجل وموثق بالصحائف العقارية، وما هو مبوب بغيرها من الوثائق ذات الطابع الرسمي أو شبه الرسمي من الوثائق المعتمدة أو المتوافرة بأيدي هؤلاء، ومقارنتها بالمصورات المعتمدة، بغض النظر عن المخطط التنظيمي اللاحق وما سيليه من تغييرات على مستوى الأبنية والمشيدات السكنية والخدمية، وكيف سيتم تنفيذه على المستوى الاستثماري والتجاري، ومن سيتربح به ومن سيخسر.
فكيف لهذه اللجان أن تقوم بعملها إن لم يفسح المجال أمام الأهالي للعودة إلى بلدتهم أولاً، أم أنه سيصار إلى اعتماد المصورات ووثائق السجلات العقارية المتوفرة فقط، بغض النظر عما يمكن أن يكون بحوزة هؤلاء الأهالي من وثائق أخرى تحفظ ملكيتهم، بمعنى آخر أنه لن يكون لهذه اللجان من عمل بظل الواقع الحالي من التدمير الجزئي أو الكلي الذي لحق بالمباني والعقارات والأراضي، وغياب أصحاب الشأن عن ملكياتهم، ما يعني بأن القادم هو حالة من التنازع على الملكية والحقوق، قد تبدأ ولا تنتهي بمدة قريبة.
بالمختصر فإن تطبيق المرسوم 66 على مدينة داريا بظل غياب أهلها قد يعتبر غير قانوني من الناحية الشكلية، وذلك لغياب الأهالي وأصحاب الملكيات عن ملكهم، وهو أس عمل لجان الوصف والحصر بموجب المرسوم أعلاه، بالإضافة إلى أن بعض مواده تفرض وجود ممثلين عن الأهالي باختيارهم من أجل ضمان حقوقهم.
التوفير بالإنفاق لمصلحة من بالنتيجة؟
قد تكون المدينة فارغة من أبنائها فرصة جيدة على المستوى الاستثماري، حيث لن تكون إدارة التنفيذ مضطرة لعمليات الإنذار والإخلاء، وتأمين البديل السكني، أو التعويض عنه، حسب ما هو منصوص بموجب المرسوم 66 نفسه، كما أن التدمير الجزئي والكلي الذي لحق بالمدينة يعتبر عاملاً مساعداً على مستوى التنفيذ من حيث سرعة استكمال عمليات الهدم والتجريف والترحيل، وغيرها من القضايا اللوجستية الأخرى المرتبطة بوضع المخطط التنظيمي موضع التنفيذ العملي، أي أن جزءاً هاماً من الكلف المترتبة بموجب المرسوم سيتم توفيرها على حساب الأهالي ومصالحهم عملياً، ناهيك عن قيمة عامل الزمن في الإنجاز، وانعكاسه على المستوى الاستثماري.
توفير آخر تم إقراره على مستوى التكاليف سيكون على مستوى البنى التحتية والخدمية، حيث وحسب المرسوم 66 فإن إدارة التنفيذ هي المسؤولة عن تجهيز وتأمين هذه البنى التحتية والخدمات العامة، في حين تم تكليف مديريات الخدمات الفنية في كل من مدينة دمشق وريف دمشق بذلك، كما تم لحظ الاعتمادات اللازمة من أجلها حسب ما تم إعلانه، فهل سيتم تقليص هذه النفقات وتخفيضها على مستوى حسابات المالكين من الأهالي بالنتيجة؟ أم سيكون المستفيد من ذلك كله هم بعض المستغلين من المستثمرين الذين يتحينون الفرصة للإقلاع بتطبيق المرسوم العتيد؟ خاصة بعد أن استفاد جزء هام من هؤلاء من حيثياته في منطقة خلف الرازي على حساب أبنائها.
عامل الزمن على حساب من؟
الموضوع الأهم من ذلك كله هو المدة الزمنية التي سيستهلكها التنفيذ بموجب المخططات التنظيمية المعلن عنها، وهل سيبقى أهالي داريا مشردين ونازحين لحين الانتهاء من هذا التنفيذ الذي قد يستمر أعواماً وأعواماً، خاصة وأن أمامهم تجربة ماثلة في منطقة خلف الرازي التي كان من المفترض أن تكون مدة تنفيذها أربعة أعوام، ولكن حتى تاريخه لم ينجز أي مقسم فيها، باستثناء مبنى إدارة التنفيذ على الرغم من مضي المدة المذكورة، وما زال الأهالي يعانون من مشكلة تأمين البديل السكني مع إدارة التنفيذ، وغيرها من القضايا الأخرى المعلقة، والتي أحدها وأهمها تجزئة الملكيات أو دمجها، والتي كان ضحيتها أصحاب الملكيات الصغيرة، الذين اضطروا لبيعها لحيتان الاستثمار سابقي الذكر بمبالغ زهيدة.
فرص استثمارية بشعارات التأهيل وإعادة الإعمار
مما سبق من الواضح أن هاجس الاستثمار هو الطاغي والمسيطر على عقلية بعض المتنفذين من الحكومة والوزارات والمحافظين، بعيداً عن مصلحة الأهالي وصيانة ملكياتهم وحقوقهم، حيث لم تخرج الجولة والاجتماع أعلاه عن هذا الحيز، تحت عنوان عريض يشمل (التأهيل وإعادة الاعمار والاستثمار والمخطط التنظيمي والمرسوم 66)، مع الملاحظات السلبية كلها على المرسوم المذكور، سواء من الناحية القانونية والحقوقية الشكلية، أو من حيث آليات تنفيذه والثغرات التي ما لبث أن تغلغل عبرها التجار والمستثمرون وحيتان الفساد، على حساب المواطنين، وخاصة فقراء الحال و«المعترين»، بدليل عدم إخفاء محافظة دمشق المطالبة بمصلحتها المباشرة بذلك، عبر إقرار أن تكون إدارة التنفيذ واحدة بالنسبة لمدينة داريا مع منطقة خلف الرازي، وذلك لما يمنحه المرسوم من حقوق للمحافظة، على مستوى توسيع ملكيتها وحرية التصرف فيها، تحت عنوان الربط الوظيفي والاستثماري والطابع العمراني وتسهيل عملية الانتقال بين محافظة دمشق وريف دمشق، على اعتبار أنها صاحبة السبق بالمرسوم أعلاه وأصبح لديها تجربة عملية بحيثياته وانعكاساته، الإيجابية والسلبية، وخاصة على المستوى الاستثماري وتنظيم صكوك الملكية والتنازل عنها وبيعها وتداولها، ليغدو الأمر برمته ليس أكثر من فرصة استثمارية كبيرة بدأ الدخول الرسمي إليها من قبل محافظتي ريف دمشق ودمشق الآن، وسيتبعها لاحقاً دخول لكبار المتعهدين والمستثمرين والتجار وحيتان الفساد.
سياسات ليبرالية ممالئة
بالنتيجة يتضح بأن عبارات التأهيل وإعادة الإعمار والمخططات التنظيمية وغيرها ليست أكثر من عناوين وشعارات بغايات استثمارية بحتة لمصلحة البعض بالمحصلة.
كما أن الحكومة، عبر جهاتها العامة وقوانينها ومراسيمها وآليات التنفيذ المتبعة من قبلها، لم تخرج عن حيز سياستها الليبرالية الممالئة لمصلحة كبار التجار والمستثمرين والفاسدين، ولعل الاستمرار بهذا النهج وبهذا النمط من الاستهتار بحقوق المواطنين والتلطي خلف الشعارات، يحمل بطياته ما لا يحمد عقباه من تداعيات، ومن الأجدى وقبل كل شيء أن يفسح المجال أمام المواطنين ليعودوا إلى مدنهم وبلداتهم وقراهم، وتأمين مستلزمات العيش الكريم لهم، مع أهمية أن يكونوا مشاركين برسم أفقهم ومستقبلهم، لا أن يملى عليهم ذلك بعيداً عن مصلحتهم.
فهل من مجيب؟!.