دمعة على كمال مراد (أبي بحر)
جاءتني نسخ جديدة من ديوان الشاعر الفيتنامي (توهو)، واتصلت بأبي بحر لأعطيه عدة نسخ يوزعها مجاناً على أصدقائنا في (قاسيون)، أجابني الهاتف فسألت: أين أبو بحر؟
قالوا: مات.
وسألت مرة ثانية: أين أبو بحر؟
قالوا: مات...
قلت: لم أفهم...
قالوا: مات...
وصحوت: لم أفهم كلمة مات إلا بعد تكرارها أربع مرات، وكيف أصدق أنه مات؟ وقد كان منذ يومين في بيتي يفيض حيوية ونشاطاً.
وتذكرت المتنبي حين بلغه موت خولة أخت سيف الدولة، فلم يصدق موتها وقال:
طوى الجزيرة حتى جاءني نبأ
نزعت فيه بآمالي إلى الكذب
حتى إذا لم يدع لي صدقه أملاً
شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي
وصرخت بعد أن تأكد لي موته: لا حول ولا قوة إلا بالله، إنا لله وإنا إليه راجعون.
وسألت: وأين دفنوه؟ قالوا: دفنوه في قريته في الجبل.
أهكذا تفعل بي يا أبا بحر؟ تتركني أعيش وأنا في التسعين وتموت، وأنت في الخمسين، ألست أنت الذي خصني بزاوية (ملوحيات)؟ ألست أنت الذي تسألني عنها مرة بعد مرة؟
أتراك سئمت الحياة، والحياة حلوة، لأنك لم تذق إلا مرارتها؟ أم تراك أحببت الموت، والموت مر، لأنك تتوقع حلاوته؟
أتعرف يا أبا بحر أن موتك زادني إيماناً بمبدئي ومبدئك ؟
زادني إيماناً بالاشتراكية، زادني إيماناً بالشيوعية... بدولة تحتضن مواطنيها كما تحتضن الأم أطفالها في حضنها، كما تضم العصفورة أفراخها تحت جناحها.
ولكنا، ويا للأسف، نعيش في مجتمع طبقي مخيف، ولهذا فأنا أسألك:
لمن تركت زوجتك المناضلة الصابرة؟ لمن تركت طفلك الصغير اليتيم؟
لقد تركتهما يا ويلاه: فريستين في وكر أفاعي، حمامتين في غابة وحوش.
ثم إني أسألك: لمن تركت جريدتنا «قاسيون»؟ هذه الجريدة التي جعلتها همتك وهمة رفاقك من أرقى، بل أرقى صحف الرأي الحر في هذا الوطن.
يا أبا بحر!
كنت أتمنى أن أزورك في قبرك، هناك في جبل العزة والوفاء، جبل الدروز، لأقرأ عليك الفاتحة، وهي كل ما يستطيع الحي تقديمه للميت، ولكني لا أستطيع، لقد تركني عمري الطويل الوجيع ومرضي القاسي، ورقة ذابلة صفراء، خرقة ممزقة بالية، تترقب اليوم أو غداً أن تهب عليها ريح عاصفة نكباء، فتذروها إرباً إرباً في ليلة من ليالي الخريف. لعلي ألحق برفاقي الموتى وهم كثيرون، ولقد أصبحت في طليعتهم يا أبا بحر.
وسلام عليهم
وسلام عليك
دمشق 11/09/2005