لست وحيداً
وحيداً في خندق طويل على جبهة حياتي الطويلة، وهكذا كان دائماً بالإمكان أن يعبر من يشاء، ويمر بظله من يريد، ويترك آخرون رسائلهم على جدرانه الترابية المنهارة، وكان بوسع أية امرأة أن تحفر قلبي بأظافرها الملونة، وأن تدع عطرها على طول جبهتي المثخنة.
ليست مقدمة عشق، وليست دعوة لنكء ما في قلوب الآخرين، وليست مديحاً أنانياً طويلاً، ولكنها تجربتي التي تشبه تصوري عن مقاتل وحيد في جبهة معتمة، وهذا التوصيف ليس لوصف الشجاعة، لكنه فقط من أجل العزلة والبرد والخوف.
العزلة التي ولدت مع جملة الوصايا الكثيرة والكبيرة عن الوطن والحب والبلاد التي فرت من بين أيدينا في لحظة غفلة وغدر، وعززتها سيرة الأيام الفقيرة والحارات المعزولة بسياج من الطموح لتجاوزه، ومضت بي سريعة إلى حيث يتربص الأمل خطواتي ليس وحيداً، بل دائماً يعتريني خوف الخديعة.
الخوف جاء باكراً.. عندما يصير الحب مراقبة أنفاس من تحب، وحين تطمئن على روح أنها على قيد الحياة من صوت الشخير، وحين يعني الثلج موسم أيام طويلة حين يراه الموسرون تزلجاً على البياض، والمطر هو أن لا تمشي منتعشاً بهطوله، بل ممسكاً بعصا المسّاحة كي تنظف سطح المنزل المحدّب، والصيف موسم عمل لا نزهات فيه، وأكثر ما يستمتع به أبناء ما وراء السوار هو اللعب بالعصي والحجارة، والخوف من كسر زجاج نافذة مجاورة.
البرد مازال صامداً... في المكان اختارت عائلتي سكناً تحت جبل الشيخ، وفي (الجين) الذي صار أنا مع الأيام كل ثلوج الجولان، وأكثر من هذا عمر بارد من شدة الركض خلف بيت لن يأتي، ووسادة أضنت روحي لتكبر، وبرد من الهلع على أيام الذين ساهمت في وجودهم على هذه الأرض، ورجفة تهز الأوصال من قادمات الأيام في وطن معدٍّ للتحول والتغيير، وصوت نسمة باردة في الظهر في هذا الخندق الموحش.
مع هذه الثلاثية يعبر الثرثارون الذين خلت أنهم قد انقرضوا، وثمة ثرثرة مجدية لأنها تملأ الفراغ فقط، ولكن اللحظات الآن بالذات الآن مزدحمة ومتراصة، فكيف تأخذ ثرثرة المنظرين كل هذا المدى في هذا الوقت الخانق.
يمرون بجواري قدامى الإيديولوجيين.. هنا يبحثون عن متسع ليدلوا بعبارات بال عليها الزمن، وبعضهم ما يزال موقناً بصلاحيتها وصداها، وهنا يعتقد هؤلاء أن أفكارهم الرثة يحتاجها الوطن في أزمته، والعالم في اقتصاده المنهار، والنساء في ليلهن الطويل.
يمرون اليوم.. ما يزال أحدهم يبتسم عن بقايا أسنان فقط بوسعها تمرير أفكار متهتكة، ويرمي بنظرته الحائرة مجموعة المستمعين بعبارات الاستشراف، واحتمالات الأزمة، ويرمي بيقينه المطلق كل مخاوف المستقبل، وكل آراء المحللين والسياسيين وحتى البيانات الرسمية.
أما من تسنى له منبر.. في كل زاوية رأي، وعند كل فرصة يقفز بحماسته فوق قناعته الأولى، ويأخذه إلى حيث لا يعرف كيف يعود، وأما إذا اتسعت الفرصة وصارت على الهواء المباشر فهنا سيعيد ترتيب الوقائع والحلول والأفكار واحتمالات الفرقاء، فالهواء المباشر فرصة لكي يستمع الآخرون إلى هذيان ربما يقود إلى فرصة هذيان جديد يستثمره المتربصون.
إلى كل هؤلاء.. ومن خندقي الوحيد الطويل، وإلى الباحثين كما يعتقدون هم فقط عن قضمة من كعكة تدعى الوطن... ثمة أصوات تتعالى في هذا الفضاء، وثمة من لا يستحق من الجميع انتهازية المصائر، وثمة وطن ليس مزاداً، ولا الأصوات العالية والمنابر الجاهزة تصنع فكرة، ولا صمت المعزولين صدى لرأي في الفراغ.
هنا بالضبط... أعتقد بأنني لست وحيداً في خندقي الطويل على امتداد جبهة الوطن.