مشفى التوليد الوطني بطرطوس.. اهتراء إداري غير قابل للترميم!
تتشابه المنشآت والمؤسسات العامة في كثير من همومها وشجونها والمشكلات التي تعاني منها، بدءاً من التخبط الإداري والخططي وغياب الاستراتيجيات، مروراً بالفساد والبيروقراطية، وانتهاء بخطر الخصخصة الذي بات إعصاراً مقيماً يعصف بين الحين الآخر بهذه المنشآت، ونسمع كل يوم بتقويضه لإحداها. وبهذا المعنى لا نضيف جديداً إذا قلنا إن الحديث عن المعاناة في مشفى التوليد بطرطوس قد يتقاطع في كثير من النواحي مع معاناة كل دوائر الصحة في البلاد، وربما كل المشافي العامة تقريباً، فمعظمها ينخر في عظامها الفساد والفوضى، وأول من تقع عين المرء عليهم في أرجائها هم المستفيدون ومتسلقو المناصب لاعتبارات شخصية، لا علمية، الذين في حمأة الدفاع عن مواقعهم، يمارسون كل ما بوسعهم من ضغط واستفزاز للكوادر النشيطة لإبقائها بعيدة عن مواقعها المناسبة لكفاءاتها التي كان يمكن أن تسخّر لخدمة البلاد..
مشفى طرطوس الوطني تحت المجهر
وصلت إلى قاسيون شكاوى كثيرة عن واقع مشفى التوليد الوطني بطرطوس بعضها يتعلق بالنظافة وانتشار الحشرات المختلفة في أماكن متعددة منها، وبعضها الآخر ركز على قضية المستخدمين وعقودهم الوهمية، وبعضها على عمليات الترميم الجارية فيها.. ثم توسعت دائرة الشكاوى لتطال قضايا متعددة ومختلفة، الأمر الذي دعانا للقيام بزيارة المشفى للوقوف على جملة ما يجري فيها.
فيما يتعلق بقضية النظافة، تبين أن الروائح البشعة التي تهب فيها تتعلق بطبيعة عمل المشفى والعمليات النسائية والبقايا الناتجة عنها، بينما لا يتوفر سوى أربعة مستخدمين في الدوام الصباحي ومستخدمتين أو واحدة في الدوام الليلي، مع العلم أن معظم الولادات الطبيعية والقيصرية تجري في الليل، وأحيانا تتجاوز ثماني حالات ولادة واثنتي عشرة حالة قيصرية في المناوبة الواحدة، وحصراً في المناوبة الليلية.. بهذا التوزيع كيف يمكن المحافظة على النظافة؟ إن النظافة المرجوة تتطلب توفير مستخدم واحد على الأقل في كل قسم وكل شعبة على مدار 24 ساعة، مع توفير كل مستلزمات النظافة.
وقد أكدت بعض العاملات في المشفى لقاسيون، أن الخدمات والمرافق الموجودة في غاية السوء، فقسم من الحمامات مغلق، وأنابيب المياه الصحية تدلف في أكثر من مكان، والسقف تسقط منه بعض الكتل الأسمنتية الصغيرة، وكثيراً ما تضطر الممرضات لأخذ الولاّدة من طابق إلى آخر لاستخدام الحمام، كون الأقرب (مصطم)!!
تقول إحدى الممرضات: «غرفة التوليد التي تأتي بأجيالنا إلى الحياة لا يوجد فيها كونديشن أو مروحة».. وحول هذه النقطة أكد مدير المشفى لقاسيون بأنه لا يمكن وضع المروحة او الكونديشن في غرفة التوليد للحفاظ على درجة حرارة معينة من أجل صحة المولود. وهنا ثمة سؤال: لماذا إذاً يوجد مكيف في غرفة العمليات القيصرية؟ ألا تخاف الإدارة على صحة المولود هناك، أم أن أهل المولود بقيصرية سددوا سلفاً ثمن ولادته ودفعت في العيادات الخاصة، أما المولود بالولادة الطبيعية سيأتي بأموال الدولة الممولة من الشعب؟؟
والحقيقة أن ما ورد أعلاه هو غيض من فيض، فالمشفى يتراجع بشدة رغم ما يقدم له من دعم حكومي، وثمة أسئلة بسيطة تجب الإجابة عنها قبل الشروع بالحديث عن المستقبل، فلماذا تغلق بعض الحمامات وتظهر مشاكل المواسير الصدئة ويعطل الكونديشن وأجهزة الايكو وغيرها.. ما دامت هناك عقود مع فنيين متخصصين يجب أن يتواجدوا في الخدمة على مدار 24 ساعة، وما دامت عقود النظافة تكفي لمشفى ضخم وتزيد؟ وهل من المعقول أن يتعطل جهازا ايكو من أصل ثلاثة، ويوجد جهاز أشعة واحد قديم ولا يوجد عليه طبيب أشعة، ويصور فقط صورة صدرية وبوضعية معينة، أما الباقي فيذهب إلى مشفى الباسل الوطني في الطرف الآخر من المدينة؟.
العمليات القيصرية
من المعروف عالمياً أنه لا يسمح بالعمليات القيصرية للولاّدة إلا باستطبابات سليمة وموثقة، تتعلق بحياة الأم أو الجنين أو استحالة الولادة الطبيعية، وحددت النسبة عالمياً بما لا يتجاوز من 10 إلى 15 % في المشافي العامة. وهذه النسبة في مشافي الولايات المتحدة الأمريكية لا تتجاوز 20 % من نسبة الولادات الطبيعية لما لها من آثار طبية سلبية على حياة الأم. فمن المعروف أنه بعد قيصريتين لا تمكن الولادة طبيعياً. ووفق بيانات المشفى المقدمة من الإدارة لقاسيون أنه في عام 2008 كان عدد الولادات الإجمالي 4009 حالات، منها 1701 ولادة قيصرية، وهذه نسبة كبيرة جداً عالمياً. وخلال ستة الأشهر الأولى من عام 2009 كان عدد الولادات الطبيعية 1233 ولادة منها 1082 ولادة قيصرية، وخلال شهر حزيران من العام نفسه كانت الولادات الطبيعية 148 ولادة والقيصرية 156 حالة. هذه النسبة غير مسموح بها بأي مشفى حكومي بالعالم، وهذا يوضح مدى ازدياد التجاوزات وحالة البطر التي أصابت الفاسدين عاماً بعد عام لغياب المحاسبة. وذكر بعض الأطباء لقاسيون بأن طبيباً واحداً في مناوبته يجري أحياناً 14 قيصرية دون إجراء استطبابات واضحة وموثقة، ومن المعروف أن كل عملية قيصرية تكلف الدولة مالا يقل عن 5000 ليرة، وهذا ما يستنزف الأموال التي تخصصها الدولة لحالات الولادات القيصرية لنساء الفقراء، وأكد طبيب آخر أن «هذه النسبة هي الأكبر عالمياً، ومن المعروف أنه عن كل عملية قيصرية يقبض الطبيب في عيادته الخاصة من 5 إلى 7 آلاف ليرة سلفاً.. وعودوا إلى جدول المناوبات تعرفوا من هم الأطباء الذين يقومون بهذا الكم من العمليات القيصرية، وكيف تتم التغطية عليهم من الإدارة».
والسؤال: أين مديرية الصحة والوزارة والرقابة والتفتيش من ذلك؟
جنديات مجهولات
تقول عاملة: «العاملات غير (القابلات)، هن الفئة التي تمثل الجندي المجهول، فهؤلاء يقمن بكل الأعمال التحضيرية ما قبل الولادة وأثناءها وبعدها، ولا يحصلن على شيء خارج راتبهن، وإنسانيتهن تدفعهن للعمل بتفان وإخلاص، ففي مناوبة واحدة يساهمن في توليد أكثر من عشر نساء، ومع ذلك فهن يرفضن أية إكراميات من ذوي المرضى، وينمن في أقسامهن أثناء المناوبة وأغلبهن يشتكين من آلام في الظهر والرقبة لطبيعة عملهن المرهق». والسؤال: أين تذهب المكافآت المخصصة للكوادر المتميزة والنشيطة والتي تصرف كربع راتب كل ثلاثة أشهر؟ ولماذا المكرمون دائماً من حاشية الإدارة؟ ومادام التكريم وضع حافز اًللآخرين وعربون وفاء للمتميز، لماذا لا توضع أسماء المكرمين على لوحة التكريم؟
وإشارة لقضية أخرى، أكدت إحدى العاملات، وكذلك بعض المراجعات أنه رغم أن المشفى متخصص بالأمراض النسائية ومعظم الموجودين نساء، إلا أنه لا يوجد إلا حارس ليلي واحد لحماية المشفى، وهناك الكثير من المطالبات بضرورة وجود مخفر شرطة على مدخل المشفى.
أجهزة التنظير
اشترت الدولة أجهزة تنظير بأموال كثيرة جدا وقدمته للمشفى، على أن يعمل الأطباء لاحقاً دورات على كيفية التعامل مع هذه التقنية الحديثة لإجراء العمليات الجراحية التنظيرية، لكن الذي جرى، كما تحدث بعض الأطباء لقاسيون، أنه انحصر التدريب، وبالتالي استخدام هذه الأجهزة على طبيبين متخصصين في المشفى، وأصبحت مخدمة لمرضاهم فقط، ولا تجرى أية عملية تنظيرية لأية مريضة محالة إلى المشفى من طبيب آخر، وجدول المناوبات يفضح من يقوم بالعمليات التنظيرية!
الرقابة الداخلية
يرى بعض أطباء المشفى بأن الرقابة الداخلية سيف بيد الإدارة مسلط على رقابهم لاصطيادهم عند الخطأ، ويمثل اللجنة طبيب أسنان مع شخص آخر لا غير!!.
ويقول أحد الأطباء: «من لا يعمل هو فقط من لا يخطئ. تحدث وفيات نتيجة اختلاطات متعددة مع المريضة، وهذه ظاهرة عالمية، لكن طريقة التحقيق في السبب وإلقاء المسؤولية، يكون القصد منها معاقبة الطبيب الفلاني الذي لا يروق للإدارة. مثلاً تحدث خمس وفيات في المشفى لأسباب متعددة، فلماذا يجري التحقيق بحالة واحدة فقط، ويكون طبيب معين هو المقصود بذلك لمعاقبته، وليس لتدارك الأخطاء مستقبلاً؟؟
وأكد طبيب آخر أن من بيده السلطة بيده كل شيء، كانت دائرة الاحتجاج أكبر بوجود الفرقة الحزبية، صوت محتج ولو كان ضعيفاً، أما بعد أن ألغيت الفرقة الحزبية، وبغياب القوانين الناظمة، أصبحت دائرة الاحتجاج ضيقة، وصوت النقابة ضعيفاً رغم النوايا الطيبة، وأصبح سيف الرقابة أكثر حدة وانتقائية.
زيارة الوزير
قبل عشرة أيام أعلنت زيارة السيد وزير الصحة إلى طرطوس.. أعطوا المراويل للجميع، دهنوا بعض الأماكن، نظفوا المشفى.. أصبحت كل المكيفات تعمل، منعوا تسريح المرضى، استنفروا المراكز الطبية وألزموها بالدوام حتى مغادرة الوزير، لقنوا البعض ما يجب أن يقال.. راح المشفى يعمل كخلية نحل.
يتساءل العاملون بالمشفى: لماذا يعلن المسؤول زيارته مسبقا؟ وما ستكون الفائدة منها؟ هل يعطي الشرعية للاختراقات التي تتم؟ لماذا لا تكون جولاته مفاجئة وميدانية؟ لماذا لا يلتقي مع العاملين خارج الإدارة؟
الترميم
المبنى عمره أكثر من ثلاثين عاماً، المبنيان التوءمان له هما المشفى الوطني والمشفى العمالي، وقد هدما منذ سنوات، ليجري العمل على إنشاء أبنية جديدة بساحة المشفى نفسها. يتحدث الجميع عن الترميمات المتكررة لهذا المشفى ومع ذلك وضعه يسوء يوما بعد يوم. مثلاً، توضع مظلات من القرميد، وتصرف عليها أموال طائلة، وبعد فترة تزال! تكسى بعض الحيطان بالرخام والسيراميك، وتنتقل من مكان إلى آخر، وتتبدل غرفة العمليات من هذا الجانب إلى ذاك، ويعاد تكسيرهما من جديد!! تبدل الأسرة والستائر والفرش بنوعية أسوأ من القديمة!!! والسؤال لماذا تصرف أموال على منشآت مقرر سلفاً إزالتها؟ من المسؤول عن عملية الترميم؟
حسناً، بعد كل هذه الترميمات هل يوجد مخطط نهائي لوضع المشفى؟ واللجان التي استنسخت الترميم ألم تلاحظ أخطاء الترميمات السابقة؟ هل الترميم أحد أسباب ثراء بعض المتنفذين في المشفى مع توفر ظروف أخرى أتيحت لهم؟؟
المرممون اليوم، حصلوا على موافقة وزير الصحة بالعمل والمرضى داخل المشفى، على أن يرمم كل جناح على حدة، وأثناء كتابة هذا التحقيق كان الترميم على أشده حيث تم الشروع بكسر الحيطان الداخلية، وكانت أصوات الهدم وتصاعد الغبار وتطاير الحجارة.. تُسمع وتُرى وكأن المشفى أصابه زلزال.
تصوروا هذا الوضع، وخلف الحائط المقابل هناك مرضى يتألمون أو نساء أنجبن للتو، أو طبيب قد فتح بطن امرأة لعملية جراحية..
ما دام المشفى متهالكاً وكل فترة يرمم من جديد وعاجلاً أم آجلاً مآله الهدم، فلماذا نُقل قسم التوليد من مشفى حديث ومتطور وحضاري مثل مشفى الباسل، ووُضع في هذا المشفى الذي يرمم منذ سبع سنوات بشكل دائم وعلى رؤوس المرضى وأثناء العمل؟ حجة النقل آنذاك أن يفتح قسم لجراحة القلب مكان التوليد، لكن مع الأسف الشديد لم ير هذا المركز النور حتى الآن .
مدير المشفى
حملت قاسيون مشاهداتها ومعلوماتها والتقت السيد مدير المشفى. كان متعاوناً وديناميكياً، فضحك ورفض صحة المعلومات التي بحوزتنا. وعزا سوء الوضع في الحمامات ووضع الأنابيب والجدران نتيجة عمليات الترميم. وعند سؤالنا عن عمر المشفى، وهل يتحمل عمليات ترميم إضافية ومتكررة، قال: صحيح أن المبنى عمره أكثر من ثلاثين عاماً، لكن الترميم أفضل وأوفر من الهدم. وشرح لقاسيون عن الأقسام التي ستضاف: عيادة نسائية، عيادة مراقبة حمل، عيادة الكشف المبكر عن الأورام (عنق الرحم) و(الثدي)، مع تزويد القسم بالتجهيزات الحديثة: إيكو متطور، جهاز تنظير.. وأكد أن نسبة الوفيات الناتجة عن خطا طبي خلال أربع سنوات نسبتها صفر، وتحدث عن مخفر الشرطة مؤكداً أخذ موافقة وزارة الداخلية بهذا الخصوص، وتوقيته عندما ينتقل بنك الدم من المشفى حيث سيوضع المخفر مكانه.
مفارقات واقتراحات
إن ما تقدمه الدولة من دعم وإمكانيات للمشافي العامة، وما توفره فيها من كوادر طبية وغرف عمليات وأجهزة، غايته أن تطبق سياسة مجانية التطبيب وخدمة المواطنين وخاصة الفقراء. ولكن لماذا الطبيب غير راض عن وضعه، والكادر الطبي متذمر والمريض غير مرتاح؟
تحدث قسم كبير من العاملين في المشفى، وخاصة الكادر الطبي والنقابي، بأن الوضع في المشفى لا يحتمل، ولتبيان هذه الأخطاء ومدى صحتها ومعرفة من المسؤول عنها على الحكومة وأجهزتها الرقابية تشكيل لجنة تحقيق مستقلة ذات صلاحيات لا علاقة لمديرية الصحة بها، للبحث بواقع المشفى، مع تأمين الحماية لمن يدلي بشهادته. وأكد قسم منهم بأن هذه الأخطاء ذكرت في المؤتمرات النقابية والطبية، ورفعت شكاوى إلى أكثر من جهة.. لكن ليس هناك من مجيب .
هناك أسئلة تبقى عالقة.. هل تطبق في مشافينا العامة مجانية الطبابة؟ متى سيصدر قانون التفرغ الطبي الذي عُمل عليه في السنوات السابقة؟ ومتى سينتهي هذا التداخل بين العام والخاص، والذي من خلاله استنزفت العيادات الخاصة أموال الدولة المقررة للمشافي العامة؟ متى تسن الدولة قانون الضمان الصحي الذي إن طبقته لن يكلفها أكثر مما تدفعه، وسيكون لمصلحة الدولة ولمصلحة الأطباء ولمصلحة المواطنين؟؟.