دمعة على أمير شعراء الرثاء عبد المعين الملوحي
كم كان بودي ألا أكتب هذه الأسطر.
أي كلام في مثل هذه المناسبات لا يمكن أن يعبر عن هول المصاب.
كل كلام الرثاء يبقى ضحلاً في حضرة وفي ذكرى أمير شعراء الرثاء.
كل كلمات العالم بجميع لغاته لا تكفي للتعبير عن نبضة حية من مشاعر الخيبة والحسرة والحرقة والفجيعة...
ـ كنت أنتظر بخوف منذ مدة أن تنبئني بهذا الخبر الفاجع، قال سامر، الذي كان له فضل معرفتي بشيخ الأدب في البلاد.
لم أتمالك نفسي، تنحيت جانباً أندب: وأنا كنت أقول لنفسي كيف سيجرؤ سامر على إعلامي بالنبأ ـ أجبته.
عجباً ألم تحني الكواكب رؤوسها إجلالاً لهذا الفارس الشاب الذي ترجل.
في كل لقاء معه كنت أشعر، وهو الذي قارب التسعين من العمر، أنّه شاب أكثر مني، ومن أفتى الشبان... فكيف رحل بهذه السرعة...
عندما سألته عن صحته في آخر لقاء لنا في 7/3/2006 أجابني بصراحة لقد رأيت الموت منذ يومين، عندما تلقيت نبأ وفاة صديقي الأديب والمناضل الثوري الفلسطيني الذي عانى ليس فقط من عسف وظلم الاحتلال بل ومن السجون العربية: مطر عبد الرحيم، شعرت لوهلة بأنني فقدت وعيي.. ولقد ذهبت إلى مخيم فلسطين وسرت وراء صديقي.. كان الطقس بارداً، مضت عليّ ليلة رهيبة لا أصدق أنني نجوت من الموت..
ـ يا أستاذنا الكريم، وهل يعقل أن تخرج في هذا الطقس البارد وأنت في هذا العمر وصحتك عليلة منذ مدة، ثم بالله عليك قل لي ماذا نستطيع أن نفعل في هذه المناسبات.. سألته.
ـ لن نستطيع فعل شيء، لن نستطيع تحريك إصبعاً من أصابعه.
إنّه لأمر غريب، وأخذ يقرأ عن ظهر قلب مقاطع من قصيدته "ثلاث رسائل من الصين":
"إنّه أمر عسير وقبيحْ
أن تعيشْ
طول تسعين سنةْ
ثم لا تدري: متى أنت تموتْ
أنا أعياني صُراخي
أنا أعياني السكوتْ
يا خيوط العنكبوت."
ـ أليس هذا هو العبث. سألته:
ـ "وحسبي من الدنيا طروسي وريشتي
وحسبي من البنيان عالم أوهامي
يهون عليّ الخطب ما عشت شاعراً
وتضرب الدنيا إذا خنت أقلامي".
أجابني.
ـ من أية قصيدة هذه الأبيات.
ـ من قصيدة بائعة الزهر التي كتبتها عام 1937.
لقد بقي متفتح الذهن وقاده حتى آخر لحظة في حياته.
ومن الأمور التي تحز في نفسي والتي لم أستطع تحقيقها في حياته: إنجاز طباعة أعماله الشعرية الكاملة، التي مازال مخطوطها مع كل أسف في وزارة الإعلام ينتظر موافقة تلامذة تلامذته على طباعة شعره.. وإنجاز طباعة كتابه "عبد المعين الملوحي في السجن" الذي منعت طباعته في سوريا.
الملوحي الذي ربى الأجيال... سجنه من رباهم... ولم يسمحوا له بطباعة كتبه، ونشر فكره، وهؤلاء سنراهم غداً كما قال في رثاء نفسه:
"غداً سوف يبكون (المعلم) جثة
وقد صار عظماً في المقابر عافيا
تناسوا حقوقي في الحياة فإن أمتْ
تباكوا على القبر الوفي تباكيا"
في عزائي لأخي منقذ قلت والغصة تخنقني: عزاؤنا أن شاعرنا خالد.. ومن واجبنا أن نخلد ذكراه دائماً... إن حضوره أقوى بكثير من الموت..
"ستطلع بعدي الشمس حمراء تزدهي
ويبزغ بعدي البدر أصفر وانيا
وبعدي تدور الأرض لم تدر من أنا
وتشدو السواقي في المروج الأغانيا"
تحية إليك يا أمير شعراء الرثاء، سلاماً إلى روحك يا "زيتونة الشام".
طرطوس 21/3/2006