د.أحمد برقاوي د.أحمد برقاوي

القومي واليساري التوبة على الطريقة الدينية

منذ زمان قريب، قريب جداً، تقاسم التياران القومي واليساري الشيوعي أو الماركسي ولاء أغلب النخب الثقافية العربية. بل إن أكثر المثقفين والكتاب العرب شهرة حتى الآن هم بالأصل خريجو مدرستي القومية والشيوعية، وقد نالوا أفضل العلامات وأرفع الشهادات من هاتين المدرستين.

وصاحب العقل الطليق الذي تحرر من الفكرة المقدسة، وانتمى إلى أهداف العرب الكبرى، يعود اليوم إلى التجربة الماضية ناقداً مجدداً دون أن يتزعزع انحيازه إلى الأهداف السياسية والأخلاقية والاجتماعية والقومية والوطنية. لكن اللافت للنظر أن نفراً من يساريي الأمس وقومييه راحوا تباعاً يعلنون التوبة على الطريقة الدينية. وهذا النفر المشار إليه كان بالأصل يؤمن إيماناً دينياً بالقومية والشيوعية. ولهذا ترى أشد الناس نكوصاً اليوم هم الذين كانوا أشد الناس تعصباً.
التائبون يسيرون تماماً على طريق التوبة الدينية. يبدأ التائب بالندم على الوهم الذي كان يعيشه، وعلى التاريخ الطويل الذي قطعه وهو يسير أعمى دون أن يأخذ بيده أحد إلى النور. تاريخه الكفاحي نوع من الرذيلة هكذا يرى، والفسق، أفكاره جملة من المعاصي، إنه يعترف أمام الكهنة الجدد بكل أخطائه.
ولأن التوبة ـ توبة مناضلي الأمس ـ تتم وهم في سن الحكمة ورشد الشيوخ، والزمن قصير لإنجاز مهمة التوبة، فإن هؤلاء يستعجلون إعلان التوبة دفعة واحدة، كما يعملون على إشهارها في الصحف والتلفزيون والمذياع والاحتفالات، والسفر إلى الخارج وإصدار التصريحات. إنه يصرخ وعشره على رأسه؛ صدقوني: أنا لم أعد معادياً للإمبريالية أنا ابن العولمة، أنا لم أعد مستلباً في القومية العربية والعروبة، أنا ابن القطر أولاً، أنا لست معادياً لإسرائيل، فقد تخليت عن العنتريات القومجية، فإسرائيل وجود يجب أن نتعايش معه.
أنا أعلن أن الصراع الطبقي مؤامرة، وأن الفقراء هم من سيدمر الحضارة.
ولأن هذا الاعتراف لا يشفي غليله، لايني يكيل الشتائم علناً على ماضيه وماضي رفاقه، بأسلوب تفوح منه رائحة الحقد. ويعلن بقول واحد: ها أنا متحرر من اللغة الخشبية. لغة الوحدة والقومية والعدالة والحرية والوقوف ضد العدو وأمريكا إلخ..
ولكي تكتمل التوبة فإنهم يحجون إلى عواصم الغرب فلا تكتمل التوبة إلا بالحج.
تلاحق التائب القومي واليساري عقد الذنب. وسؤاله الدائم ترى هل نُسي ماضيَّ عند من يجب أن ينسى؟ هل صورتي الجديدة قد أتت على صورتي القديمة.
لكن الفرق بين التوبة الدينية الحقة والتوبة على الطريقة الدينية عند هؤلاء هو أن الأولى ناتجة عن الخوف من غضب الإله في الآخرة، وأن الأفعال التي ارتكبها كافية لإغضابه، ولهذا فهو يتوسل الصفح والعفو صادقاً من كلي القدرة، أما توبة بعض قوميينا ويساريينا فهي توبة من أفكار التنكب لها تغضب الأكثرية وترضي الأقلية وتقف وراءها أهداف ذاتية محضة أو حالة نكوصية شبه واعية.
أمر طبيعي أن يتغير وعي الإنسان بالعالم، ومن الطبيعي أن تتغير آراؤه حول الخير والشر والماورائيات والأهداف الدنيوية وقضايا الوطن والناس والصراع إلخ.. وفي حالنا من غير الطبيعي أن يبقى القومي متمترساً في خطابه القديم دون تجديد وفق تغير الأحوال. وأن يبقى الماركسي أو اليساري عموماً متمسكاً بالقديم من الآراء. من الطبيعي أن نتعلم من أخطائنا فنصوبها، ونعمق حقائق ما بإغنائها. لكن للتوبة شأن آخر. إنها فعل لا أخلاقي بامتياز في الحال الذي نتحدث عنه، عكس التوبة الدينية الحقة فهي عودة إلى عالم القيم الإيجابي.
فإن يصبح بعض القوميين كلاب حراسة عند سلطات منبتة يدافعون عن التجزئة ودولة السلطة وينالون من أحلام الناس وأهدافهم الحقيقة فهذا فعل منحط من الناحية الأخلاقية فضلاً عن أنه موقف قوامه الكذب الصُراح.
وأن يتحول بعض اليساريين إلى كلاب حراسة عند مستغلي قوت الشعب مدافعين عن فضائل العولمة واقتصاد السوق فهذا فعل لا أخلاقي بامتياز ومنحط علمياً.
أن يتحول بعض مناضلي الأمس إلى بوق دعاية للتسوية مع الكيان العنصري الاستيطاني الإجلائي الصهيوني اليهودي دون أن ترف لهم جفون رافعي شعارات العقلانية والواقعية فهذا موقف منحط وطنياً وقومياً وأخلاقياً.
إنه لا يختلف عن موقف ذاك الذي يريد تحرير فلسطين من البحر إلى البحر وهو ينعم بالرفاه على حساب المناضلين الحقيقيين الذي يتضورن جوعاً.
أن ينال بعض يساريي الأمس المتعصبين من صمود حزب الله وتضحياته وتفانيه في الدفاع عن لبنان وتقديمه الشهداء والجرحى والنظر إلى ما جرى على أنه مؤامرة شيعية فهذا يحتاج إلى وصف سلبي يفوق أي وصف تنطوي عليه اللغة.
أن يُنظر إلى الكيان العنصري على أنه كان في حال رد الفعل على فعل مغامر فهذا يعني أن الناظر من الصنف الذي ذكرت ما هو إلا ـ ودون أن يدري ـ أو يدري ـ يؤيد عدونا القومي «إسرائيل».
 أن ينبري بعض يسارييّ الأمس لتبرير جرائم الولايات المتحدة في العراق وفلسطين ونشدان الحرية والديمقراطية من أحط امبراطورية عرفها التاريخ البشري فهذا هو اللامعقول بحد ذاته. سيقال لنا أنك تعود على لغة التخوين. نعم. يجب أن نعود إلى لغة التخوين. إذ للمرة الأولى التي يُطلب فيها علناً ألا نخوّن الخائن. تضم اللغة مفهوم الخيانة، والخيانة هو كل فعلٍ من شانه إيذاء الوطن، وكل فعل داخلي مرتبط بعدو الوطن يساعد العدو على تنفيذ أهدافه. يجب ألا نخجل من القول أن من هو مع الولايات المتحدة الأمريكية ويعمل لصالحها وينفذ مصالحها ويتبادل الابتسامات مع مسؤوليها بوصفهم حلفاء له هو خائن وطنياً.
كل من هو مع العدو القومي، كل من لا يرى في الكيان العنصري عدواً قومياً هو خائن وطنياً. وأنا لا أدري لماذا داخل الخوف القوميين العرب واليساريين من استخدام مفهوم الخيانة. أجل يجب استخدام لغة التخوين وفق المعايير السابقة.
أما أسطورة: كلٌ يحب الوطن بطريقته وأن الأمور نسبية فهذا قول زائف بالمرة.
لا يمكن الاختلاف في حب الوطن إلا في الشدة والكيف. ولا يمكن أن يكون هناك تناقض في حب الوطن. فالذي يجري أن هناك تناقضاً صارخاً بين موقف هو مع تقدم الأمة ورفعتها ووحدتها وحريتها وديمقراطيتها وموقف هو مع استعمارها وجهلها وتجزئتها.. ثم إن القول بأن لا حقيقة مطلقة ولكن هناك نسبية مطلقة قول يجعل من النسبية مطلقة، وهذا يعني زوال المعايير بين الحق والباطل بين الحقيقة والتزيف بين الوطنية والخيانة. عندها يزول الفرق بين الشهيد الذي قضى بصاروخ صهيوني من الجو وبين الذي دل على الشهيد. يزول الفرق بين جعجع وبين رشيد كرامي علينا أن نعري هذه الكذبة الكبرى: «كل يحب الوطن على طريقته».
نعم هناك طرق لحب الوطن ولكن يجب أن يكون الحب للوطن أولاً ثم اختيار الطريق لتعيين هذا الحب ولكن من يحب جيبه أولاً ويعتبر ذلك حباً للوطن فهذا نوع سخيف من المسخرة. أن يكون أحد ما مع جيش لحد ويقول أن هذه طريقة في حب الوطن فهذه وقاحة. أن يتعامل أحد مع إسرائيل ويقول إن ذلك كان من أجل الوطن فهذه وقاحة مطلقة.
إن التائب القومي اليساري الذي بفعل ذلك كله هو خائن للوطن، أجل خائن للوطن.
(كلنا شركاء) 4/12/2006