بين قوسين: حرية.. حرية!
آثمٌ كلّ من تعامل مع الحركة الاحتجاجية الشعبية باستعلاء أو بقرف أو بغطرسة.. فهي كما أزعم ويؤمن الكثيرون، أعظم وأشرف ما حدث في سورية منذ الثورة السورية الكبرى، التي أفضت إلى الاستقلال وقيام الدولة الوطنية، ولو بعد حين..
آثمٌ كل من حاول أن يخنقها في مهدها، أو يقمعها ويفتك بها قبل أن يقوى عودها، أو يكيل إليها الاتهامات التخوينية القاتلة ليطفئ سناها قبل أن تشع كنور الصباح في عموم البلاد، أو يحتال عليها بالرشى والإغراءات البخسة بعد أن أصبحت أمراً واقعاً لا مناص من الاعتراف بوجوده..
آثم كل من حاول أن يسوقها وهو غريب عنها موقعاً وخطاباً وأهدافاً، وكل من حاول أن يدنّسها وهو يدرك مدى طهارتها ومدى قذارته، وكلّ من حاول دفعها إلى الخلف شكلاً ومضموناً وهو مفضوح التخلف في المظهر والجوهر والغايات الدنيئة..
آثم كل من حاول أن يمتطيها ويروّضها من مدّعي الفروسية، وهي الفرس الجامحة التي لا تقبل بغير الأفق الفسيح، وكل من سعى إلى إخراسها وهي الصوت المجلجل الصارخ الغاضب، وكل من نصب لها الفخاخ السحيقة ليكبيها ويعلن القضاء على المؤامرة، فأبكته وعرّته وأعلنته متآمراً، ولا متآمر سواه..
آثم كل من اتهمها بأنها أصغر من مطالبها، وأوهن من أن تعيش بمعزل عن «رعايته»، وأجهل من أن تمضي إلى الأمام متجاوزة كل الكمائن والحواجز وصراط المحرمات والقوانين الطارئة..
المجد للحركة الاحتجاجية الشعبية وهي تدخل شهرها الخامس بصدر عارٍ وعيون حالمة وقلب دافئ وأيد تصفّق للأمل، مالئة الشوارع في المدن والأرياف برائحة الحرية القادمة، والعدالة الاجتماعية القادمة، والكرامة الوطنية القادمة.. دون أن تسير في المحصّلة إلا نحو وجهتها التي وضعتها نصب عينيها، رامية القاذورات والطفيليات عنها ذات اليمين وذات الشمال، وذات الغرب وذات الشرق والجنوب... غير عابئة بالحر أو بالقر، ولا بما يتقول به عليها الجالسون في مكاتبهم الوثيرة المكيفة ومواقعهم المتربعون عليها عنوة.. ولا بما يدعوها إلى براثنه المتشدقون من وراء البحار القريبة والبعيدة، ومن وراء الشاشات والغمزات واللغة الماكرة..
المجد لها وهي التي لم تقارب ظلها العالي المؤتمرات الفرنجية أو المستعربة ولا التجييشات الطائفية في وسائل الإعلام النفطية والأمنية والمذهبية، ولم تزعزع إرادتها التطمينات أو التهديدات الداخلية والخارجية، ولم يضلل بوصلتها «زعران» الجريمة الذين اندسوا افتعالاً بشكل عابر في بعض صفوفها، ولم يثنِ من عزيمتها «الشبيحة» وأشباههم الذين ما انفكوا ينهالون عليها بالهراوات والشتائم والاتهامات والرصاص الحي..
سيتقوّل المتقوّلون بالكثير قبل أن تحقق الحركة الاحتجاجية الشعبية أهدافها السامية، وسيتقولون بالكثير بعد أن تعيد رسم لوحة الوطن بالشكل الأزهى والأنظف لصورة الوطن، وسيزعم كثيرون أنهم فعلوا كذا، ودفعوا نحو كذا، وأسسوا لكذا، وساهموا بكذا، وحققوا كذا... لكن التاريخ، ولو بعد حين، لن يسجّل إلا الحقيقة الخالصة، وهي أن الذين تحدوا الخوف بقلوبهم القوية، وتحدّوا الرصاص بإصرارهم الأعزل، وتحدوا الإهانات والاعتقالات والضرب المبرّح بإرادتهم العظيمة، وتحدوا الإغراءات كافّة بنزاهتهم الخالصة، وتحدّوا الوهم الهمجي بتمسّكهم بالتاريخ والجغرافيا والرصانة الأخلاقية والإنسانية، وتحدوا الموت بيقينهم العميق بما يفعلون، هم وحدهم الذين صنعوا الإنجاز الكبير..
ما أشرف الحركة الاحتجاجية الشعبية وما أعظمها، وما أعمق جذورها.. وما أضخم ما سوف تحققه للجميع: لمن معها، ولمن عليها، ولمن ما يزال متردداً أو خائفاً أو مشككاً.. أو مراوغاً..
بقاء واستمرار الحركة الاحتجاجية الشعبية هو الضمان الوحيد لكل خير مأمول في هذه البلاد التي أوشكت أن تغرق في اليأس والظلام والخوف..