الفساد يتصدى لفاعلي الخير أيضاً!
ربما يستغرب القارئ العزيز هذا العنوان للوهلة الأولى, ولكن حتماً سيزول استغرابه عندما يطلع على أشكال معارك الفساد ضد الشرفاء والمخلصين وحتى فاعلي الخير في هذا الوطن العزيز، وهنا سنقتصر على معركة واحدة مع فاعلي الخير :
عطفاً على ما نشرته قاسيون في عددها (285( تاريخ /8/11/2006 حول فيضانات تل تمر التي ذهب ضحيتها تسعة أفراد ومئات الأغنام وعشرات البيوت والأرزاق الأخرى. ولولا شهامة وبطولة صيادي السمك تاج الدين أحمد الخضر وياسين محمد الخضر، الذين أنقذا بسفينتهما الصغيرة التي يستخدمانها للصيد (45) إنساناً من عمال قطاف القطن بين رجل وامرأة وطفل ويافع وشيخ, لولا هذه البطولة الرائعة من تاج الدين وياسين لكانت الكارثة على درجة بالغة من المأساوية، حيث أن عملية الإنقاذ تمت في أصعب الظروف, سيول جارفة, وأمطار شديدة وليل دامس حالك، فمنذ الثامنة مساءً وحتى الثانية بعد منتصف الليل، وهما ينقلان مجموعات لا يتجاوز عددها السبعة أشخاص وهي الحمولة الممكنة لسفينتهما حتى تم إنقاذ الجميع من سيل متلاطم كان يزحف شيئاً فشيئاًً على الأطراف السفلية (الأرجل) للكبار من المحاصرين الذين يحملون بدورهم الصغار على أكتافهم حتى لا يغرقوا إلا بعد أن يغرق الكبار. كيف قيض الله للعوائل من عمال قطاف القطن هذين البطلين الشهمين: لقد ذهب تاج الدين وياسين لإنقاذ عدة صيدهم الذين يشتركان بها وهي عبارة عن شباك مختلفة وجادر تقدر قيمتها بـ / 75000 ل.س/ خمس وسبعون ألف ليرة سورية بالإضافة إلى السفينة المتواضعة والتي فاقت شهرتها في المنطقة – بعد الإنقاذ طبعاًً – شهرة السفينة العملاقة «تيتانيك» وعندما عرفا أن هناك عوائل محاصرة وتستغيث، تركا كل ما يملكانه من أدوات صيد وتوجها لإنقاذ هذه العوائل المحاصرة بدافع الغيرة والحمية، حيث أنهم لا يعرفون ولا شخص واحد منهم وليس بينهم أي صلة قربى سوى قرابة الوطن الذي يحضن الجميع. إلى هنا والقصة لا يبدو أن لها علاقة بالفساد، وأنها عبارة عن قصة نبيلة
أبطالها شخصان شهمان هما فردان من شعب أصيل اعتاد على مثل هذه الحالات من الأريحية والشهامة، ويعرف تاريخ هذا الشعب مئات بل آلاف القصص المماثلة في الأوقات الحالكة .
ولكن عندما حاولت الجهات المسؤولة التعويض على المتضررين وهذا واجبها، بل أقل واجباتها– استبشر الناس خيراً ومن ضمنهم تاج الدين الذي لا يملك حتى بيتاً ويعتاش هو وعائلته من صيد الأدوات التي جرفها السيل ويشاركه في ذلك ابن عمه وشريكه ياسين الذي يملك بيتاً من غرفة واحدة في قرية الدشيشة التي تضرر قسم من بيوتها ودمرت السيول غرفته التي تحوي أثاثه وحاجياته وما بها من متاع .
وكما هو معروف حضر وفد وزاري لدراسة آثار الفيضانات وأضرارها وقد أخذ الوفد الوزاري علماً ببطولة هذين الصيادين، وقد قيل لهم وقتها إن السيد الوزير عرف بما فعلاه وأنه أشاد ببطولتهما، ووجه إلى السيد المحافظ بضرورة دفع مكافأة مالية لهذين الصيادين. وهذا ما جعلهما في غاية السرور إذ أنهما سيحصلان على تعويض عن أدوات الصيد ومكافأة وأن ياسين سيحصل على تعويض عن غرفته (أي بيته) وأثاثه الذي فقده، خاصةً وأنهما قاما بتحرير ضبط رسمي في مخفر شرطة تل تمر وفقاً لتوجيهات الجهات المسؤولة، وكما فعل المتضررون جميعاً وفوق ذلك سيحصلان على مكافأة مالية كما سمعا من توجيه السيد الوزير – حسبما نمي إليهما – ولكن كما قال الشاعر :
ما كل ما يتمنى المرء يدركه
تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
فقد وصلت التعويضات و لم يعوض ولم يكافأ لا تاج الدين الذي لا يملك في هذه الدنيا سوى حصته من أدوات الصيد التي أضحت في خبر كان والتي كانت سبيل عيشه الوحيد .
ولا ياسين الذي فقد فوق حصته من تلك الأدوات غرفته الوحيدة وأثاثها الذي ابتلعهما السيل. كما أصاب سوء الطالع أخوي ياسين الاثنين :
أخوه في الرضاعة غرفة و أثاثها و أخوه من أبويه غرفة وأثاثها فلم يعوضا أيضاً.
لم يحصل ياسين وتاج الدين على المكافأة التي وعدا بها والتي حلما طيلة الشهور الماضية بأنها حتما ً ستكون سخية وسوف تدرأ عنهما شظف العيش وغول الفقر اللذين يهددان حياتهما الأسرية التقيناهما مجدداً،ً وقد رأينا في وجهيهما مسحة اليأس والقنوط وتعبير الألم والخذلان عوضاً عما شاهدناه سابقاً في وجهيهما بعد عملية الإنقاذ مباشرة من علامات الاعتزاز والزهو والفخار، وقد تحدثنا معهما وشددنا من عزيمتهما و قلنا لهم لقد فعلتم مافعلتم بدافع الغيرة والحمية التي نشأتم عليها ولم يكن بدافع المكافأة وقد قال الشاعر العربي :
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه
لايذهب العرف بين الله والناس
أجابا نعم صحيح ولكن ليت الدولة لم توعدنا بشيء ليتها لم تعوض المتضررين ألسنا متضررين؟ وعدونا بدفع تعويضات ومكافأة لم نعد نريد المكافأة راحت تعويضات إلى ناس لم يطل بيوتهم سيل، ولم يهدم لهم بيت قسم من التعويضات لم يذهب إلى مستحقيه ذهب إلى ناس لم يخسروا شيئاً من متاعهم. قلنا لهم أعطونا أسماءهم لتوثيق الحالة عندما نكتب عنها، وهنا برزت عند تاج الدين وياسين شهامة من نوع آخر, إذ قالوا لنا ليس من شيمنا أن نقطع رزق أحد أو نشي بأحد، حتى ولو أخذ حقنا، فالدولة هي المسؤولة عن حرماننا وإعطائهم ونحن لنا الله والمخلصين من أبناء الوطن ونرجو أن تكتبوا قصتنا في جريدتكم. أخيراً أيها الفاسدون والمفسدون إن يومكم آتٍ لا محالة, وسوف يحاسبكم شعبنا إن طال الوقت أو قصر.. وإن غداً لناظره قريب..
■ أحمد دياب